قد يبدو للبعض أن الدين يفرض المواقف السياسية، لكن التاريخ المغربي يروي قصة عكس ذلك تماما. على امتداد العقود، كان هناك عدد من المغاربة من أصل يهودي الذين اختاروا أن يضعوا العدالة والحق قبل الانتماء الطائفي، وأن يكونوا صوتا فلسطينيا مدويا في وجه الاحتلال والصهيونية. هؤلاء لم يكونوا متفرجين على الأحداث، إنما كانوا سياسيين مناضلين، كتابا، صحافيين ومثقفين، جعلوا من الدفاع عن فلسطين جزءا من حياتهم، بل من هويتهم.
خمسة أسماء على الأقل سطّرت بصماتها في هذا المسار، وهم: سيون أسيدون، ابراهام السرفاتي، آدمون عمران المليح، سيمون أو شمعون ليفي، وجاكوب كوهين. كل واحد منهم اختار طريقه الخاص، لكن جمعهم هدف واحد، وهو الدفاع عن الحق الفلسطيني، ومناهضة الاحتلال الصهيوني، رغم أن ذلك كان يعني أحيانا التضحية بالحرية، أو الراحة، أو حتى الحياة.
سيون أسيدون، المناضل واليساري المغربي من أصل يهودي، لم يتوانَ عن اتخاذ موقف حاسم لصالح الفلسطينيين، واضعاً قناعاته الإنسانية فوق أي اعتبارات دينية أو قومية. لقد آثر أن يكون صوت الحق، وسعى للانضمام إلى منظمة التحرير الفلسطينية، مؤمناً بأن التضامن مع الفلسطينيين واجب أخلاقي قبل أن يكون خيارا سياسيا.
إلى جانب أسيدون كان ابراهام السرفاتي، المهندس الشيوعي الذي قضى 17 سنة في السجون المغربية بسبب انتمائه إلى منظمة “إلى الأمام”، وهي منظمة يسارية سرية في عهد الملك الراحل الحسن الثاني. لم يكن السرفاتي مجرد معتقل سياسي، بل كان رمزا للالتزام بالقضية الفلسطينية، مؤمناً أن الحرية والعدالة لا تعرف حدودا، وأن الدفاع عن الفلسطينيين واجب إنساني لا يرتبط بالانتماء الديني. توفي السرفاتي عام 2010، تاركا إرثا من الشجاعة والنضال السياسي.
وكان للكتابة حضورها البارز في هذا النضال، من خلال آدمون عمران المليح، المعروف بـ”الحاج آدمون”. اتخذ الكتابة وسيلة لمناهضة الصهيونية والدفاع عن فلسطين، متحدثاً إلى أجيال المغاربة من خلال مقالاته وكتبه التي فضحت سياسات الاحتلال الإسرائيلي. لم يكتفِ بالدفاع الفكري، بل جعل من الكلمة أداة نضال حقيقي، حتى رحيله في عام 2010.
أما في المجال الأكاديمي والسياسي، لعب سيمون أو شمعون ليفي دورا مهما. مدير المتحف اليهودي بالدار البيضاء وقيادي في حزب التقدم والاشتراكية، جمع بين البحث العلمي والنضال السياسي، مؤمنا بأن الانتماء الديني لا يتعارض مع الدفاع عن الحقوق الإنسانية. بحثه في العلاقة بين اليهود والمغرب، ونشاطه السياسي، جعلاه مثالا على أن الفكر النقدي والثقافة يمكن أن يكونا سلاحا فعالا ضد الظلم. توفي ليفي عام 2011، تاركاً إرثا معرفيا وسياسيا مهماً.
أما جاكوب كوهين، الكاتب والصحافي المغربي الحاصل على الجنسية الفرنسية، فهو الوجه المعاصر لهذا النضال. من خلال روايته الشهيرة “يد الموساد على تنغير”، فضح عمليات التجسس والاختراق الإسرائيلي في المغرب، مسلطا الضوء على التدخلات الإسرائيلية في المنطقة. كوهين، الذي يقيم في باريس، لم يتوقف حتى أثناء العدوان على غزة عن فضح السياسات الصهيونية والدفاع عن الحقوق الفلسطينية، مؤكداً أن الكلمة ما زالت سلاحاً قوياً لمناهضة الظلم.
هؤلاء الخمسة، كلٌ بطريقته، يثبتون أن النضال من أجل الحرية والعدالة لا يعرف حدودا دينية أو طائفية. سجلهم في الدفاع عن فلسطين يذكّرنا بأن التضامن الإنساني يتخطى كل الانتماءات، وأن مواجهة الظلم تتطلب شجاعة وإيمانا بالحق قبل أي شيء آخر.
إن دراسة مساراتهم تكشف عن بعد مهم من تاريخ المغرب الحديث، تاريخ يثبت أن العدالة والحق يمكن أن يجمع بين المسلمين واليهود وباقي الديانات، وأن الدفاع عن قضية عادلة ليس خيارا طائفيا، بل إنساني بحت. هؤلاء الأفراد هم شهادة حيّة على أن النضال من أجل الحق والحرية يمكن أن يتحول إلى إرث خالد، يلهم الأجيال القادمة.
