عماد العتابي
لم يكن خطاب “الرئيس السوري” الأخير مجرد توضيح لموقعه من الإسلام السياسي أو من حركات “الربيع العربي”. بل هو خطوة مدروسة في سياق إعادة تعريف موقع السلطة الجديدة ما بعد سقوط الدولة السورية المقاومة. فعندما يعلن بوضوح أنه “ليس امتدادا لا للإخوان المسلمين، ولا للجماعات الجهادية، ولا للربيع العربي”، فهو لا يكتفي بترسيم حدود سياسية بينه وبين من يعتبرونه رئيسا مجاهدا سيحرر القدس بعد دمشق، بل يفتح الباب على مرحلة جديدة عنوانها؛ تهيئة الجمهور لتقبل خيارات كانت حتى الأمس القريب من المحرمات، وفي مقدمتها التطبيع مع الكيان الصهيوني.
قد يرى البعض أن الإرهابي الجولاني كان صادقا حين أعلن ذلك، لأنه في الحقيقة لم يكن يوما امتدادا للإخوان أو للتيارات الإسلاموية. لكن القراءة الأعمق تكشف أن وراء هذا الإعلان بعدا استراتيجيا، وهو إعداد جمهوره بما فيه الشرائح الإسلامية والكتل التي وجدت نفسها أقرب إلى خطاب “المقاومة” لمرحلة قد تشهد تحولات كبرى، من بينها الانفتاح على تسويات إقليمية ودولية، قد لا تخلو من نقاشات حول “التطبيع” الكامل مع الكيان الصهيوني.
فاللغة السياسية لا تُقاس فقط بما يُقال، بل بما يراد أن يُفهم. وهنا تحديدا، يمكن قراءة هذا التصريح كمقدمة ذكية لتفكيك البنية الأيديولوجية التي تشكلت خلال عقود من الزمن على قاعدة “سوريا قلب العروبة النابض في مواجهة إسرائيل”.
في الجهة المقابلة، يبرز اسم أبو محمد الجولاني، الذي شكّل ظاهرة غريبة في المشهد السوري. فالرجل، بحسب الكثير من الروايات، لم يكن يوما معروف النسب أو الهوية الحقيقية. جاء إلى الساحة عبر تنظيم “داعش”، ثم أُعيد تدويره في “جبهة النصرة”، قبل أن يتقمص دورا أكثر “شرعية” ويحاول الظهور بمظهر قائد محلي ذي مشروع سياسي.
لكن مساره لم ينجُ من التساؤلات، كيف استطاع شخص غامض الجذور أن يتحول إلى لاعب أساسي في أخطر ملف إقليمي؟ وكيف سُمح له أن يفرض نفسه طرفا تفاوضيا أمام المجتمع الدولي؟ الإجابة، كما يرى كثير من المراقبين، لا تنفصل عن دوره كأداة مخابراتية، وخصوصا في ضوء التحليلات التي تصفه بـ”الجاسوس الإسرائيلي” بامتياز، الذي استثمرت فيه تل أبيب لتشتيت خصومها واسقاط الدولة الوطنية السورية.
الجولاني لم ينجح فقط بفضل الدعم الخارجي، بل بفضل ثغرة قاتلة داخل الأمة نفسها؛ الطائفية. فحين تعمى الشعوب عن رؤية المشهد الكلي، يغدو من السهل تمرير أخطر المشاريع تحت شعارات دينية أو مذهبية أو حتى ثورية.
ما يزيد الصورة وضوحا هو الموقف المتناقض لتيارات واسعة من المعارضة، التي تراوحت بين الإخوان المسلمين وبين ما يمكن تسميته “يسار الناتو”؛ أحزاب وقوى علمانية ويسارية وجدت نفسها تصفق للثورة السورية لا لأنها رأت فيها خلاصا، بل لأنها انساقت وراء المشروع الصهـ.يوأمريكي الذي قدّمها على أنها امتداد لـ”الربيع العربي”.
لكن النتائج الملموسة على الأرض لم تكن سوى مزيد من الدمار، وتفكيك الهوية الوطنية، وإضعاف الدولة السورية لحساب مشاريع تتقاطع مع مصالح تل أبيب أكثر مما تتقاطع مع مصالح السوريين أنفسهم.
اليوم، وبعد أكثر من عقد على اندلاع الحرب الصهـ.يوإخوانية على سوريا، يبدو أن “الرئيس السوري” الجديد يريد أن يعيد تعريف نفسه، ونظامه، أمام شعبه وأمام العالم برسالة واضحة؛ “لسنا جزءا من الإسلام السياسي، ولسنا أبناء الربيع العربي، ولسنا وكلاء لفصائل جهادية عابرة للحدود”. لكن ما لم يُقل صراحة، وما يقرأ بين السطور، هو أن هذا التموضع الجديد يفتح الباب أمام هندسة تسويات إقليمية قد تعيد رسم خريطة التحالفات في المنطقة.
هل هذا يعني أن سوريا على أبواب التطبيع مع إسرائيل؟ نعم، فالنظام لم يعد يكتفي بالتهيئة النفسية لجمهوره، بل يسير بخطى ثابتة نحو التطبيع والانبطاح، ضاربا أي شعارات أو مبادئ كانت تحمي السيادة الوطنية.
ما بين براءة دمشق المعلنة من الإسلام السياسي، وفضائح الجولاني الذي صار رمزا للتدوير الاستخباراتي، وبين خيبة الإخوان و”يسار الناتو”، تبدو الساحة السورية متجهة إلى إعادة تعريف نفسها. لكن الثمن، كما اعتاد السوريون منذ عقد، قد لا يدفعه السياسيون فقط، بل الشعب الذي أنهكته الحرب، ويخشى أن ينهكه سلام مذل ومشروط.
