عماد العتابي
في ساحة النقاش العام، تظل حرية التعبير واحدة من أقدس القيم التي نتمسك بها، ليس فقط كمبدأ دستوري أو حق إنساني، بل كوسيلة أساسية لإحداث التغيير ومواجهة السلطوية. وداخل قضايا ثقيلة وحساسة مثل “حراك الريف”، الذي وُلد من رحم المعاناة الجماعية والظلم التاريخي، تصبح الكلمة موقفا، ويصبح النقاش مسؤولية أخلاقية قبل أن يكون تمرينا على البلاغة والديمقراطية.
لكن، في خضم هذا التقديس المستحق لحرية التعبير، تبرز لحظات نادرة يكون فيها سياق اللحظة أكثر حساسية من المبدأ نفسه. لا بمعنى التخلي عن المبدأ، بل بمعنى ضرورة الإنصات لنبض المرحلة، ولمشاعر الناس، ولموازين الوجدان الجماعي. في هذا السياق، لم يُحسن الصحفي الكبير علي المرابط تقدير التوقيت، حين اختار لحظة عزاء جماعي على رحيل والد ناصر الزفزافي، ليطرح مقارنات علنية بينه وبين محمد جلول، في سياق بدا أشبه بمحاولة تفكيك رمزية الرجل داخل وجدان الريفيين.
هذه ليست مساءلة فكرية عادية، بل كلام خرج في لحظة جرح مفتوح، وهو ما يجعل من حرية التعبير، حينها، سيفا قد يُخطئ الاتجاه. أقول من حق المرابط أن يُعبّر، نعم، لكن ليس كل توقيت صالحا للبوح، خصوصا حين يتحوّل التعبير إلى جرحٍ جديد يُضاف إلى الجراح التي لم تندمل بعد. وهنا، لا بد من التذكير بأن الحرية لا تكتمل دون حكمة، ولا تمارَس دون إحساس بمقام اللحظة.
رغم ذلك، يبقى الرد على الخطأ بخطأ آخر أمرا لا يخدم الحراك ولا يخدم الحقيقة. فإقصاء علي المرابط من خيمة الريف ضمن فعاليات حفل الإنسانية بباريس، لم يكن هو الآخر تصرفا موفقا. فالرجل، بغضّ النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معه، يبقى ابن الريف ودفع فاتورة كبيرة بسبب مواقفه وكتاباته الجريئة، وصوتا حرا، وله تاريخه ومساهماته في النقاش العام حول الريف وعموم المغرب.
بل إنّ الأجدر بخيمة الريف أن تستضيف علي المرابط، لا أن تُقصيه. ليس فقط احتراما لحقه في التعبير، بل أيضا لنمارس نحن، بدورنا، حقنا في مساءلته ومناقشته داخل نفس الإطار الذي يدافع هو عنه؛ “حرية التعبير”. فبدل أن نغلق الباب أمامه، كان من الأجدر أن نترك له المنصة ليشرح، ويوضح، ويجيب عن الأسئلة التي أثارها كلامه حول الزفزافي وجلول. بهذا فقط نكون أوفياء لقيم الحراك، لا بمجرد الشعارات، إنما بالممارسة الفعلية للحوار والانفتاح.
حراك الريف، في عمقه، ليس مرهونا بشخص أو رمز، ولا يجب أن يتحول إلى مرآة لصراعات رمزية داخلية. لكنه أيضا لا يجب أن يُستَخدم لتصفية الحسابات مع رموزه. فحين نناقش مسار الزفزافي، أو جلول، أو غيرهما، علينا أن نفعل ذلك من منطلق الحرص على المشروع، لا من رغبة في تقويض ما تبقى من رمزيته.
الزفزافي لا يحتاج إلى تقديس، وجلول لا يحتاج إلى تبجيل، لكن لا أحد منهما يستحق أن يُستعمل كمادة لتغذية انقسام عبثي. بل إن أكثر ما يمكن أن نخسره اليوم هو ثقة الناس في صدقية الحراك، إن تحوّل إلى ساحة لتناطح “الآراء الحرة” بدل أن يبقى مساحة نضال ضد الاستبداد والنسيان.
ما أحوجنا، اليوم، إلى مناخ نقاش صحي داخل الجسم الريفي، لا يخاف من الأسئلة، ولا يُقصي من يطرحها، ولا يُحوّل كل اختلاف إلى خصومة. إن الخوف من النقد لا يُبقي إلا على الأصوات المتشابهة، وهي أصوات قد تريح النفس، لكنها لا تُنتج فكرا، ولا تُصلح طريقا.
الرد على علي المرابط، أو غيره، لا يكون بالإقصاء، بل بالحجة والوضوح والمساءلة. نسأله: ماذا قصدت؟ ما خلفية طرحك؟ ما هدفك السياسي أو الإعلامي من ذلك؟ ثم نفتح المجال لنقاش عام يعمّق الفهم، لا يُغلق الأبواب.
والحراك ليس ملك أحد، ولا إرث عائلة أو حزب أو مجموعة من الأشخاص. هو ملك كل من حلم بالكرامة والعدالة. ولكي يستمر هذا الحلم، لا بد أن نحميه من الغضب الموجه إلى الداخل، كما نحميه من القمع القادم من الخارج.
لهذا، نحتاج إلى قدر أكبر من الهدوء، والصبر، والشجاعة الأخلاقية. فلا أحد فوق النقد، ولا أحد خارج المساءلة. لكن ما نريده هو نقدٌ يعمّر، لا يهدم، وأسئلة تنير الطريق، لا تُطفئ الشموع القليلة التي ما زالت مضاءة.
حرية التعبير لا تُمارس في الفراغ يا رفاق، بل في سياق. ومن لا يُحسن قراءة السياق، قد يتحول صوته من أداة تحفيز إلى وقود خلاف. وبين الحرية والسياق، يولد الوطن أو يضيع.
