حين تسربت رسالة الرئيس المصري الراحل محمد مرسي إلى رئيس دولة الإحت.لال الإسرائيلي شيمون بيريز في يوليو 2012، لم يكن وقع الصدمة عاديا. الرسالة، التي حملت توقيع أول رئيس مدني منتخب من جماعة الإخوان المسلمين، افتتحت بـعبارة “عزيزي وصديقي العظيم”، وأعرب فيها مرسي عن “رغبته الشديدة في تطوير علاقات المحبة” بين البلدين. في لحظة واحدة، سقطت شعارات “المقا.ومة”، وذابت عبارات “العداء التاريخي”، وبات “العدو الصهيـ.وني” شريكا في خطاب دبلوماسي مُترَف بالعواطف.
قد يرى البعض أن الخطاب لا يخرج عن الأعراف البروتوكولية، وأن مصر كدولة ذات سيادة تلتزم باتفاقياتها الدولية، ومنها معاهدة السلام مع إسرائيل. غير أن ما فجّر موجة من الانتقادات وقتها، هو التناقض الحاد بين الخطاب السياسي الذي طالما تبنّته جماعة الإخوان المسلمين، والخطاب الرسمي الذي ظهر فور اعتلائها الحكم. لقد صوروا أنفسهم طيلة عقود على أنهم البديل الثوري للمهادنة الرسمية مع الإحت.لال، فإذا بهم، عند اول احتكاك فعلي بالسلطة، يسيرون على ذات النهج الذي أنكروا على غيرهم اتباعه.
من يتتبع مسيرة جماعة الإخوان المسلمين يلحظ بوضوح ازدواجية الخطاب، وهو ما يجعل كثيرا من مواقفهم السياسية محط شك وتساؤل. فقد بدأوا كحركة دعوية إصلاحية، ثم تحولوا إلى فصيل سياسي يزاوج بين الدعوة والتكتيك التنظيمي، دون أن يقدّم مشروعا وطنيا حقيقيا. شعار “الإسلام هو الحل” بقي عقودا دون توضيح حقيقي لماهية هذا الحل، حتى بدا وكأنه شعار زائف يصلح لكل شيء ولا يصلح لأي شيء.
في الحالة الإسرائيلية، كانوا دوما يصورون أي تعامل رسمي مع تل أبيب خيانة، والتطبيع جريمة، والاعتراف بها خطا أحمر. فماذا تغير بعد الوصول إلى الحكم؟ ألم تكن رسائل الود المتبادلة مع بيريز تطبيعا؟ ألم يكن تعيين سفير جديد لدى إسرائيل وترسيخ التعاون الأمني استمرارا لما دأبت عليه الأنظمة السابقة التي اتُّهِمت بالخيانة؟! الفرق الوحيد أن مرسي كتب رسالته بقلبٍ مفتوح، لا فقط بيد موقعة.
الحقيقة الأهم التي كشفتها تلك الرسالة هي أن جماعة الإخوان، حين أمسكت بزمام الدولة، افتقرت إلى مشروع حقيقي يترجم شعاراتها إلى سياسات. لم يكن لديهم تصور متماسك للعلاقات الدولية، ولا رؤية اقتصادية واضحة، ولا آلية لإدارة التنوع المجتمعي. وسرعان ما ظهرت علامات التخبط، ثم العزلة، ثم الصدام مع كل مؤسسات الدولة.
عندما واجهت الجماعة ضغطا دوليا، لم تمانع في إرسال تطمينات هنا وهناك. وحين احتاجت دعم الغرب، راحت تحسّن صورتها، ولو على حساب خطابها القديم. وبدل أن تشكل قطيعة مع ممارسات الأنظمة السابقة، راحت تُكررها بلباس إسلامي، دون أي محاسبة أو مراجعة.
من أخطر ما مارسته جماعة الإخوان المسلمين أنها مزجت بين الدين والسياسة على نحو وظيفي انتهازي. فقد استخدمت الدين لتبرير خياراتها السياسية، لا العكس. فإن عارضت الديمقراطية، وجدت لها فتاوى. وإن احتاجت لها، أخرجت من التراث ما يدعمها. وإن أرادت التطبيع، جعلته “ضرورة شرعية”، وإن رفضته، سمّته “موالاة للكفار”.
إن رسالة محمد مرسي إلى شيمون بيريز لم تكن مجرد ورقة دبلوماسية عابرة، بل كانت مرآة عاكسة لفكر جماعة تتقن التلوّن، لكنها تعجز عن الثبات. جماعة لا يمكنها أن تكون جسرًا بين الدين والدولة، لأنها اختارت السلطة على حساب القيم، والتنظيم على حساب الوطن.
