تشكل تجربة حزب العدالة والتنمية في قيادة الحكومة المغربية خلال ولايتين متتاليتين واحدة من أكثر المحطات إثارة للجدل في تاريخ الممارسة السياسية بالمغرب الحديث. إذ ما تزال آثار تلك المرحلة تُلقي بظلالها على النقاش العمومي، خصوصا مع ظهور محاولات لإعادة تسويق الحزب كفاعل سياسي “نزيه” أو كبديل محتمل في المشهد الحزبي. لكن مراجعة موضوعية لهذه التجربة تفرض الوقوف عند عدد من القرارات والسياسات التي مثّلت، بالنسبة لشرائح واسعة من المغاربة، نقطة تحوّل حقيقية في مسار الحقوق الاجتماعية والاقتصادية.
جاءت الحكومتان اللتان قادهما الحزب في سياق صعب، لكن خياراته في عدة ملفات كانت كارثية وموضع انتقاد واسع، خاصة تلك التي مستّ بشكل مباشر القدرة الشرائية والحقوق الاجتماعية.
فمن إصلاح صندوق المقاصة الذي نتج عنه رفع تدريجي للدعم، إلى إصلاح أنظمة التقاعد الذي اعتُبر من أكثر القرارات إيلاما لفئات واسعة من الموظفين، إضافة إلى مشاريع قوانين رأى النقابيون أنها تستهدف الحق في الإضراب، كل هذه الإجراءات شكّلت تحولا كبيرا في علاقة الدولة بالمواطن من زاوية الحماية الاجتماعية.
قد يختلف التقييم السياسي لهذه القرارات بين من يعتبرها “إصلاحات ضرورية” وبين من يراها “تراجعاً اجتماعيا”، لكن الثابت هو أنها خلّفت أثرا عميقا في الوعي الجماعي وجعلت حصيلة الحزب مرتبطة، لدى الكثيرين، بإجراءات تقشفية خطيرة مست مكان العيش اليومي للمواطن.
إذا كان البعد الاجتماعي والاقتصادي هو محور النقد الأبرز، فإن التحول السياسي الأكثر إثارة كان توقيع الحكومة التي يترأسها (البيجيدي) على معاهدة التطبيع مع الكيان الصهيوني. فقد شكل ذلك القرار مفصلا حادا في مسار الحزب الذي بنى جزءا من هويته الخطابية على الدفاع المبدئي عن القضية الفلسطينية.
سواء اعتُبر القرار خضوعا لإكراهات الدولة أو تنازلاً سياسياً، فإنه وضع الحزب أمام تناقض صارخ بين خطابه التاريخي وممارسته الواقعية، وعمّق حالة فقدان الثقة لدى جزء من قاعدته التنظيمية والشعبية.
هذا التراكم من الاختلالات والقرارات اللاشعبية، في نظر المنتقدين والمهتمين جعل مسألة استعادة الحزب لصورته أو تقديم نفسه مجددا كقوة سياسية “نظيفة ووفية” أمرا بالغ الصعوبة. فإعادة إنتاج خطاب الطهرانية أو استدعاء الرمزية الأخلاقية لا يلقى اليوم الصدى الذي كان له قبل تجربة الحكم، خصوصا بعد أن أصبحت نتائج السياسات العمومية جزءا من الحياة اليومية للمواطن وليست مجرد مواقف نظرية.
رغم ذلك، يظل حزب العدالة والتنمية جزءا من المشهد السياسي الموبوء الذي يتطور باستمرار لكن نحو الأسوأ طبعا. فالأحزاب تمر غالبا بمراحل مدّ وجزر، وقدرتها على مراجعة ذاتها وصياغة خطاب جديد تستوعب فيه أخطاء الماضي هي ما يحدد مستقبلها. غير أن أي عملية “إعادة تموضع” تحتاج أولا إلى مواجهة صريحة لتلك المرحلة، وتحمّل مسؤوليتها السياسية والأخلاقية، بدل الاكتفاء بخطاب الضحية يحمّل المسؤولية للإكراهات أو “التحكم”.
إن المرحلة التي قاد فيها حزب العدالة والتنمية الحكومة تظل محطة تستحق دراسة معمقة بعيدا عن التبسيط أو التقديس. فلا يمكن تجاهل أن سياساته تركت أثرا كبيرا وأسودا على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للطبقة العاملة وعموم الكادحين والفقراء في المغرب، كما لا يمكن إنكار أن خياراته السياسية أحدثت شرخا بين خطابه وممارساته.
وبالتالي، فإن أي محاولة لتبييض تلك المرحلة أو تقديم الحزب في صورة طهرانية تتجاوز السياق والوقائع تبقى مجرد مناورة انتخابية لا أكثر. فالشرعية السياسية والأخلاقية تُكتسب عبر المراجعة الجدية وتحمل المسؤولية، لا عبر تجميل الماضي.
