عماد العتابي
لم يكن مساء الخطاب الملكي الأخير مساء عاديا في الفضاء المغربي. فقبل إلقائه، كانت المنصات تضجّ بتوقعات متحمّسة، وتكهنات عن “خطاب مفصلي” قد يفتح مرحلة جديدة في العلاقة بين الدولة والشباب. لكن بعد دقائق من نهايته، امتلأت الصفحات بخيبة أمل جماعية، وصمت ثقيل مشوب بالدهشة.
لقد كان الخطاب، ببساطة، هادئاً أكثر مما يسمح به المزاج العام. ومن هنا وُلد التناقض بين جيل متعطش للتغيير يواجه مؤسسة تراهن على الزمن الطويل.
الذين خاب أملهم ليسوا خصوما للنظام، بل أبناءه الجدد. هم شباب وُلدوا في ظل “الاستقرار”، لكنهم تشبّعوا بثقافة رقمية عابرة للحدود، جعلتهم يرون السياسة بوصفها وسيلة لخدمة الحياة اليومية لا مجرد طقس من طقوس الدولة.
كانوا ينتظرون لغة مختلفة، أكثر قربا من نبضهم، وأكثر جرأة في الاعتراف بالبطالة، التعليم، الإقصاء، غياب الصحة والأفق. غير أن ما سمعوه كان خطابا محافظا على الإيقاع نفسه، مكرّسا لفلسفة “الاستمرارية” التي تشكل جوهر النظام المغربي.
المفارقة هنا أن هذا الجيل يفكر بسرعة “الفيديو القصير”، بينما يفكر النظام بسرعة “الدولة العريقة”. وبين الإيقاعين، تتولد الفجوة.
منذ خطاب 9 مارس 2011، الذي جاء في لحظة ضغط داخلي وإقليمي، ترسخت لدى المغاربة فكرة أن الخطابات الملكية قد تحمل أحيانا طابعا استثنائياً، يفتح الأبواب نحو إصلاحات عميقة. لكن المؤسسة الملكية، في جوهرها، لا تُبنى على الاستثناء بل على الديمومة.
هي ترى في التغيير المفاجئ تهديدا لتوازنها، وتعتبر أن إدارة الزمن أكثر نجاعة من تحدّيه. ولذلك، فإن انتظار “خطاب استثنائي” في غياب سياق ضاغط يشبه انتظار برقٍ في سماء صافية.
في عمق النظام المغربي، لا يكمن “المخزن” كجهاز إداري أو أمني فقط، بل كعقيدة حكم قائمة على التحكم في الإيقاع. المخزن لا يحب المفاجآت، ولا يسمح بأن تُفرض عليه لحظة التفاعل من الخارج. يختار هو متى يتحدث، وكيف، وبأي لغة.
وحين يختار البرود، فذلك ليس صدفة، بل تكتيك متعمد يهدف إلى حماية رمزية المؤسسة من الانفعال اللحظي. بالنسبة له، الصمت شكل من أشكال الكلام، والابتعاد عن الضجيج طريقة في إدارة السلطة.
هنا تبرز مقولة الراحل خالد الجامعي “المخزن يُكَيِّف ولا يُكَيَّف” التي تلخّص الفلسفة المخزنية بدقة نادرة..
في هذه الجملة تكمن حكمة قرون من تاريخ الدولة المغربية. فالمخزن، بخلاف كثير من الأنظمة العربية، لا ينكسر أمام التحولات، بل يمتصّها ويُعيد إنتاجها ضمن منطقه الخاص.
حين خرجت حركة 20 فبراير إلى الشارع، لم يواجهها بالحديد والنار فقط، بل بحنكة “التكييف”؛ دستور جديد، إصلاحات محسوبة، واحتواء ذكي للمطالب دون تفجير النظام. لقد تكيّف مع الموجة، لكنه لم يسمح للموجة أن تغيّره.
الخطاب الملكي الأخير يندرج في هذا الإطار بالضبط. فالمخزن، حين يشعر بأن الشارع ينتظر منه استجابة فورية، يختار العكس تماما. ليس عنادا فقط، بل حفاظا على القاعدة؛ المخزن لا يُكَيَّف، لأنه يعتبر نفسه معيار التكييف.
هذه المفارقة تشرح كل شيء. الدولة تقول للشباب، بلغة غير مباشرة: “أنا لا أتحرك حين تُريد، بل حين أرى أن الوقت مناسب.”
خيبة الأمل التي أصابت الشباب ليست علامة ضعف، بل بداية نضج سياسي. فكل جيل يحتاج أن يصطدم مرة على الأقل بواقع السلطة ليدرك حدود الخطاب وحدود الحلم.
لقد كان الجيل الجديد يظن أن التغيير يمكن أن يُمنح بخطاب واحد، لكنه يكتشف اليوم أن التغيير في المغرب يُنتزع بالتراكم، لا يُمنح بالمفاجأة. وهذه لحظة وعي حقيقية، حيث يبدأ الانتقال من الانتظار إلى الفعل، من الحماس إلى التنظيم، من “الترند” إلى المشروع.
ما يحتاجه المغرب اليوم ليس ثورة في الخطابات، بل تحديث في العلاقة بين الدولة والمجتمع. جيل Z يقول أنه لا يريد إسقاط النظام، بل يريد أن يُسمع، أن يُرى، أن يُحتضن ضمن رؤية اقتصادية وسياسية تفتح أمامه أفقا للحياة والكرامة.
على الدولة أن تفهم أن شرعيتها المستقبلية لن تُبنى فقط على التاريخ أو على الرمزية، بل على قدرتها على إقناع هذا الجيل بأنها تُصغي إليه بصدق. فالإصلاح الحقيقي يبدأ من الإصغاء، لا من الإملاء.
خيبة الأمل التي عاشها الشباب بعد الخطاب ليست هزيمة. إنها تمرين سياسي ثمين، اختبار للوعي الجماعي، ودليل على أن جيلا جديدا بدأ يطرح الأسئلة الصعبة بجرأة غير مسبوقة.
لكن في المقابل، يظل المخزن مخلصا لقاعدته التاريخية: يتكيّف ليبقى، ولا يتغيّر إلا حين يختار هو توقيت التغيير.
وفي تلك المسافة الدقيقة بين من يريد التغيير الآن ومن ينتظره لاحقا، يتشكل مستقبل المغرب السياسي.
