تحليل سياسي
يبدو أن المشهد ااسياسي آخذ في التبدل داخل واحد من أقدم النزاعات في القارة الإفريقية، جيث برز في الأيام الأخيرة تزامن لافت ومدروس بين لهجة البيان الصادر عن جبهة البوليساريو في نيويورك وخطاب الملك محمد السادس، وتصريحات مايكل ويتكوف، مبعوث ترامب إلى الشرق الأوسط، حول جهود أمريكية للتوسط في اتفاق سلام بين الجزائر والمغرب، حيث قال في مقابلة مع برنامج “60 دقيقة” على قناة “سي بي إس” إن إمكانية التوصل إلى اتفاق خلال 60 يومًا واردة.
البيان الذي أصدرته جبهة البوليساريو يوم 20 أكتوبر 2025 من بعثتها الدائمة لدى الأمم المتحدة في نيويورك جاء في لحظة حساسة، مباشرة بعد تصريحات الوسيط الأمريكي، ما يعكس وعي الجبهة بالضغط الدولي المتزايد ومساعي الوساطة الأمريكية.
الوثيقة حملت لغة أقل صدامية وأكثر دبلوماسية، إذ أكدت الجبهة “تقديمها نصا موسعا يعبر عن حسن نية واستجابة لقرارات مجلس الأمن”، ملوّحة باستعدادها “للدخول في مفاوضات مباشرة دون شروط مسبقة”، وداعية إلى “حل سياسي عادل ودائم يضمن حق تقرير المصير للشعب الصحراوي”.
البيان سعى إلى تظهير البوليساريو أمام المجتمع الدولي كطرف مسؤول ومتفاعل إيجابيا مع جهود الأمم المتحدة والوسطاء الدوليين، خصوصا في ظل اهتمام واشنطن المباشر بدفع عجلة التسوية الإقليمية بين المغرب والجزائر.
على الجانب الآخر، جاء الخطاب الملكي الأخير بنبرة أكثر مرونة، مؤكدا أن حل قضية الصحراء يجب أن يكون توافقي “لا غالب فيه ولا مغلوب”، في إشارة يمكن ربطها بالضغوط الأمريكية الرامية إلى تثبيت الاستقرار الإقليمي في المنطقة.
الملك تحدث عن ضرورة إيجاد تسوية تحافظ على وحدة المغرب الترابية، ولكن ضمن رؤية تضمن كرامة الجميع وتحافظ على السلم والاستقرار الإقليمي، ما يعكس المرونة الدبلوماسية لمواجهة ديناميكية الوساطة/الضغوط الأمريكية، دون التفريط بالثوابت الوطنية.
اللافت في الخطابين، المغربي والبوليساري، هو التحول في النغمة؛ فبدلا من المواجهة المعتادة، نلمس اليوم تقاطعا في المفاهيم الأساسية مثل “النية الحسنة”، “الاحترام المتبادل”، و”السلام والاستقرار”.
هذا التلاقي يتزامن مع تصريحات ويتكوف، ما يعطي للخطابين بعدا إضافيا، فكل طرف يحاول إظهار نفسه كفاعل مسؤول أمام المجتمع الدولي والوسيط الأمريكي المحتمل، مع التمسك برؤيته الخاصة للحل (الحكم الذاتي تحت السيادة الوطنية للمغرب، واستفتاء تقرير المصير للبوليساريو).
في ضوء هذه التطورات، يبدو أن النزاع حول الصحراء يدخل مرحلة جديدة، قوامها إدارة الحل بدل إدارة الصراع. التصعيد لم يعد يلقى آذانا صاغية، والضغط الدولي، خصوصا الأمريكي، يدفع نحو لغة أكثر واقعية وميلا للتوافق.
الطرفان يسعيان للتموضع بما يمنحهما مكاسب سياسية أو على الأقل تجنبهما الخسارة الدبلوماسية في معادلة “لا غالب ولا مغلوب”، وهي لغة تم التمهيد لها من خلال كل من الخطاب الملكي والبيان البوليساريوي، مع وعي واضح بدور الضغوط الأمريكية المحتملة.
بيان جبهة البوليساريو، جاء مباشرة بعد تصريحات الوسيط الأمريكي، وقبلهما خطاب محمد السادس، وجميعهم يشتركون في جوهر واحد، وهو السعي إلى الخروج من منطق الصراع المفتوح إلى منطق التوافق السياسي.
هذا لا يعني بالضرورة قرب الحل، لكنه مؤشّر واضح على أن اللغة السياسية في ملف الصحراء تغيّرت، وأن الأطراف بدأت تدرك أن السلام لا يُصنع بالانتصار على الآخر، بل بالتفاهم معه، تحت ضغط المجتمع الدولي وبالخصوص الأمريكية.
