A bulldozer passes by a hilltop manned by Moroccan soldiers on a road between Morocco and Mauritania in Guerguerat located in the Western Sahara, on November 23, 2020, after the intervention of the royal Moroccan armed forces in the area. - Morocco in early November accused the Polisario Front of blocking the key highway for trade with the rest of Africa, and launched a military operation to reopen it. (Photo by Fadel SENNA / AFP) (Photo by FADEL SENNA/AFP via Getty Images)
تحليل سياسي
تعود قضية الصحراء إلى واجهة النقاش الدولي من جديد، بعد أن طرحت الولايات المتحدة الأمريكية مسودة قرار على مجلس الأمن تتناول مستقبل البعثة الأممية “مينورسو” ومآلات العملية السياسية بين المغرب وجبهة البوليساريو.
ورغم أن القرارات الأممية بشأن هذا الملف تتجدد سنويا تقريبا، فإن المسودة الأخيرة حملت نبرة مختلفة، تميل بوضوح إلى دعم المقاربة المغربية القاضية بمنح الأقاليم الصحراوية حكما ذاتيا موسعا تحت السيادة المغربية، مع الإبقاء في النص على الإشارة إلى “حق تقرير المصير” كمرجعية سياسية لا يمكن تجاوزها.
هذا التوازن الظاهري بين الواقعية السياسية والمبدأ القانوني يعكس محاولة أمريكية لإعادة صياغة التوافق الدولي حول الملف، بما يتماشى مع التحولات الإقليمية وموازين القوى الجديدة في شمال إفريقيا.تؤكد المسودة الأمريكية أن مقترح الحكم الذاتي الذي قدمه المغرب سنة 2007 يمثل “حلاً جادًا وذا مصداقية وواقعية”، وهو تعبير تكرر في عدة قرارات سابقة، لكنه في هذه النسخة جاء مقرونا بتوصية واضحة بالدفع نحو مفاوضات “بدون شروط مسبقة” للوصول إلى تسوية نهائية. كما اقترحت المسودة تمديد ولاية بعثة “مينورسو” إلى يناير 2026.
ويبدو أن الولايات المتحدة، من خلال هذه الصياغة، تسعى إلى تجاوز الجمود الطويل في مسار التسوية، عبر إعادة تعريف جوهر “حق تقرير المصير” بحيث لا يُفهم فقط كاستفتاء على الاستقلال، بل كممارسة سياسية داخل إطار سيادة قائمة، وهو المفهوم الذي بات يلقى قبولًا متزايدًا لدى عواصم غربية ترى في الحكم الذاتي صيغة أكثر واقعية وأقل تكلفة دبلوماسية وأمنية.
اللغة التي استعملتها المسودة تكشف محاولة دقيقة للموازنة بين الأطراف. فبينما تؤكد على “الحكم الذاتي الحقيقي داخل الدولة المغربية”، تعود لتشير إلى “ضمان حق تقرير المصير لشعب الصحراء الغربية”.
هذا التداخل بين المفهومين ليس مجرد تلاعب لغوي، بل هو انعكاس لتقاطع مصالح دولية متشابكة.من الناحية الدبلوماسية، يتيح هذا الأسلوب لواشنطن الحفاظ على موقفها كوسيط “متوازن” في الظاهر، رغم ميلها العملي نحو الموقف المغربي. كما يمنح للأمم المتحدة هامشًا في التفسير، يتيح استمرار العملية السياسية من دون حسم قاطع في المفهوم النهائي لتقرير المصير.
وفي الوقت نفسه، يترك الباب مفتوحًا أمام الأطراف الأخرى، خصوصًا الجزائر والبوليساريو، لتقديم اعتراضات شكلية من دون تعطيل المسار برمته.تاريخيًا، تبنت واشنطن مواقف متدرجة في الملف الصحراوي، لكنها لم تكن يومًا بعيدة عن الموقف المغربي. فبعد الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء خلال إدارة الرئيس دونالد ترامب أواخر 2020، انتظر كثيرون من الإدارة الجديدة مراجعة ذلك القرار. غير أن مرور السنوات أثبت أن واشنطن اختارت الإبقاء على الاعتراف، وإنْ بلغة أكثر دبلوماسية وأقل حدة.
في هذا السياق، يمكن قراءة المسودة الحالية كترجمة لنهج “الاستمرارية الواقعية” أكثر من كونها انقلابًا في الموقف.فالإدارة الأمريكية لا تسعى لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، بل تريد ترسيخ دورها القيادي داخل مجلس الأمن، في وقت تتراجع فيه فعالية الوساطات الأوروبية وتزداد تعقيدات البيئة الأمنية في منطقة الساحل.من المنتظر أن تنظر الرباط بإيجابية إلى هذه المسودة، لأنها تتضمن عناصر تعزز مقاربتها في الملف، خصوصًا الاعتراف ضمنيًا بجدية مقترح الحكم الذاتي باعتباره المرجعية الأساسية للحل. وسترى فيها المغرب أيضًا تأكيدًا جديدًا للدعم الأمريكي، وإن كان مموّهًا بلغة الأمم المتحدة.في المقابل، يُنتظر أن تتحفظ الجزائر على بعض مضامين النص، خاصة تلك التي تعتبر أن الحلّ ينبغي أن يمرّ عبر استفتاء يعبّر فيه “شعب الصحراء” عن إرادته بحرية كاملة.
كما قد تسعى جبهة البوليساريو إلى استثمار التناقضات اللغوية في المسودة لتأكيد أن “حق تقرير المصير” لم يُستبعد، وأن النص لا يغلق الباب أمام خيارات أخرى غير الحكم الذاتي. أما داخل مجلس الأمن، فقد تبرز مواقف متفاوتة بين الدول الدائمة العضوية، حيث تميل فرنسا وبريطانيا إلى تأييد التوجه الأمريكي، في حين تُبدي روسيا والصين تحفظات تقليدية على أي صيغة قد تُفهم بأنها فرض لحل دون موافقة الطرفين.
التحليل الأعمق للمسودة يكشف أن الولايات المتحدة لا تراهن على تحقيق اختراق سريع في النزاع، بقدر ما تسعى إلى إعادة هندسة مقاربة إدارة الملف في الأمم المتحدة. فبدلًا من التركيز على الاستفتاء كأداة وحيدة لتقرير المصير، تحاول واشنطن أن تروّج لمفهوم “التقرير الذاتي داخل الدولة”، أي صيغة سياسية تمكّن سكان الإقليم من إدارة شؤونهم ضمن السيادة المغربية، مع ضمانات دولية لاحترام الخصوصية الثقافية والاقتصادية للمنطقة.
هذا التحول المفاهيمي لا يعني نهاية النزاع، لكنه يعيد تعريف إطاره القانوني والسياسي. كما أنه يمنح الأطراف مساحة للمناورة السياسية من دون كسر التوازن الإقليمي القائم بين الرباط والجزائر.
يمكن القول إن المسودة الأمريكية الجديدة تمثل محاولة لإخراج ملف الصحراء من دائرة الجمود الطويلة، من خلال إدخال عنصر “الواقعية السياسية” في نصوص مجلس الأمن. غير أن نجاح هذه المقاربة سيظل رهينًا بقدرة الأطراف على الدخول في مفاوضات فعلية تتجاوز الخطاب التقليدي، وبمدى استعداد القوى الكبرى لدعم حل وسط لا يُقصي أحدًا.
فالقضية الصحراوية لم تعد مجرد ملف حدودي، بل باتت اختبارًا حقيقيًا لمدى قدرة النظام الدولي على إدارة نزاعات السيادة في عالم يتغير بسرعة. وبينما ترى الرباط في المسودة خطوة إضافية نحو ترسيخ سيادتها، تظل الجزائر والبوليساريو متمسكتين بمفهوم كلاسيكي لتقرير المصير. وفي غياب إرادة تفاوضية حقيقية، قد تبقى “الواقعية الأمريكية” مجرد صياغة لغوية مؤقتة لسلام مؤجل، قد يتحول لمواجهة بمباركة أمريكية.
