عماد العتابي
في خضم الحديث عن الصراع الاقتصادي ومعارك الإنتاج والتوزيع، وعن الصراع العسكري وما يفرضه من مواجهات دامية على الأرض، كثيرون يتناسون أن هناك ساحة أخرى لا تقل أهمية ولا خطورة: ساحة الصراع الأيديولوجي. هذه الساحة هي ميدان الحرب على العقول، حيث تُصاغ الأفكار، وتُعاد صياغة الواقع في أذهان الجماهير بما يخدم مصالح الطبقات المهيمنة.
لقد كان للصراع الأيديولوجي دور بالغ التأثير في التاريخ الحديث. لم يكن سقوط المعسكر الاشتراكي وليد تفوق اقتصادي أو عسكري غربي فحسب، بل كان نتاج عملية طويلة من الهجوم الأيديولوجي المنظم، الذي عمل على تقويض ثقة الشعوب بنفسها، وتحطيم الأسس الفكرية التي يقوم عليها مشروعها التحرري. الدين، الإعلام، والثقافة، والمناهج التعليمية، وحتى الفنون، جرى توظيفها في معركة ناعمة لكنها قاتلة، استهدفت قلب الوعي الجمعي.
في عالمنا في المغرب وشمال إفريقيا وعموم الشرق الأوسط، شهدنا أثر هذا السلاح بأوضح صوره. فقد تمكّن الهجوم الأيديولوجي من شلّ إرادة الشارع، وتغييبه عن معاركه الحقيقية. جرى حرف الصراع من مواجهة الاستغلال الطبقي والهيمنة الإمبريالية، إلى صراعات طائفية وعرقية وإثنية تافهة في جوهرها، لكنها مدمّرة في نتائجها. وهنا برزت قوى الإسلام السياسي كأداة مثالية في يد البرجوازية التابعة وحلفائها الدوليين. هذه الجماعات لم تكن سوى عصابات منظمة، احتكرت خطاب الدين، وقدّمته بقراءة انتقائية تخدم مشروعها السلطوي، فزرعت في وعي الجماهير أوهام “الخلافة” و”التمكين” بدلا من الوعي الطبقي والتحرر الوطني. وباسم الدين، جرى تجريم النضال النقابي، وتشويه اليسار، وإحلال الطاعة العمياء محل النقد والتمرد.
لقد لعبت هذه القوى دور الوسيط بين الإمبريالية والجماهير المفقّرة: تضبط غضب الشارع، وتوجّهه إلى معارك جانبية ضد الطوائف الأخرى أو حتى ضد الضحايا أنفسهم، بدلًا من توجيهه نحو البنية الحقيقية للاستغلال. وحين تندلع الانتفاضات الشعبية، تكون أول من يسرق ثمارها وأول من يقمعها حين تهدد مصالحها.
إن الإمبريالية العالمية، ومعها البرجوازية التابعة في بلداننا، لم تكن لتنجح في هذا لولا فراغ الساحة من مثقفين عضويين حقيقيين. المثقف العضوي، كما فهمه غرامشي، ليس حامل شهادة أو كاتب مقالات فحسب، بل هو منغمس في حياة الطبقة العاملة، يعبر عن مصالحها، ويشتبك مع قضاياها اليومية، ويمتلك الأدوات الفكرية لفضح التضليل الذي تتعرض له. هذا المثقف هو جندي في معركة الوعي، يقف في وجه الحملات الإعلامية، يواجه الأكاذيب بالحقائق، ويعيد ربط النضال اليومي بالهدف التاريخي، وهو التحرر من الاستغلال والاستعمار.
اليوم، نحن في أمسّ الحاجة إلى استعادة هذه الجبهة المنسية. الصراع الأيديولوجي ليس ترفا فكريا ولا نقاشا نخبويا، بل هو شرط أساسي لأي مشروع تحرري. فالهزائم العسكرية والاقتصادية تبدأ أولا كهزيمة في الوعي. وإذا لم نحسم هذه المعركة، فإننا سنظل ندور في حلقة مفرغة، نحارب أعداءنا في الميدان بينما نترك لهم السيطرة على عقولنا.
إن إعادة بناء حركة مثقفين عضويين، منخرطين في النضال اليومي للطبقة العاملة والفئات الشعبية، ليست مهمة ثانوية، بل هي مسألة حياة أو موت لمستقبل أي تغيير حقيقي. ومن دون ذلك، سنبقى شعوبا تُهزم في عقولها قبل أن تُهزم على أرضها.

شكرا جزيلا على هدا المقال الرائع