منذ عقود، يتردّد على الألسن مصطلح “حل الدولتين” باعتباره المخرج السياسي للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، غير أنّ هذا الحل ظلّ شعارًا أكثر من كونه مشروعا واقعيا. ومع موجة الاعترافات الغربية والأوروبية بالدولة الفلسطينية، خصوصًا في الأيام الأخيرة (بريطانيا، أستراليا، كندا، فرنسا…)، برز سؤال جوهري: لماذا يحرص الساسة الغربيون على الاعتراف بـ “فلسطين” دون الخوض في التفاصيل الجوهرية لشكل هذه الدولة وحدودها وصلاحياتها؟
الحقيقة أنّ هذا الغموض ليس صدفة، بل هو مقصود وممنهج. إذ يخشى الغرب من أنّ أي تحديد واضح لمعالم الدولة الفلسطينية سيكشف عمق التناقض بين الشعارات المرفوعة والواقع القائم تحت الاحتلال.
حين أعلنت دول مثل إسبانيا، إيرلندا، والنرويج في 2024 اعترافها بفلسطين، جرى التعامل مع الخطوة كإنجاز سياسي وتاريخي. لكن سرعان ما تبيّن أنّ هذه الاعترافات لم تُغيّر شيئا من المعادلة على الأرض، فلا انسحاب إسرائيلي من الضفة، ولا رفع للحصار عن غزة، ولا حتى موقف موحد من قضية القدس. الاعتراف بقيَ إذا في دائرة الرمزية، حيث تستخدمه بعض الحكومات الأوروبية لإظهار موقف “متوازن” في الصراع دون المساس بجوهر الدعم الاستراتيجي لإسرائيل.
أي نقاش جاد حول الدولة الفلسطينية يفتح مباشرة ملف الاحتلال. فالحدود التي يطالب بها الفلسطينيون ـ وهي حدود 1967 مع القدس الشرقية عاصمة للدولة ـ تعني بالضرورة إخلاء مستوطنات واسعة أقامتها إسرائيل خلال عقود، وهو ما ترفضه الحكومات الإسرائيلية بشكل قاطع. من هنا، تتجنب القوى الغربية تحديد هذه النقطة، لأنها ببساطة ستضعها في مواجهة مباشرة مع تل أبيب.
القضايا الكبرى التي تشكّل لبّ القضية الفلسطينية يتم التعامل معها وكأنها “خطوط حمراء”. الحديث عن حق العودة للاجئين يعني نسف التركيبة السكانية التي تراها إسرائيل شرطا لوجودها كدولة “يهودية”. والقدس الشرقية، بكل رمزيتها الدينية والسياسية، تحولت إلى ملف مسكوت عنه، رغم أنّ القانون الدولي يعتبرها أرضا محتلة. لذلك تكتفي العواصم الأوروبية بعبارات عامة عن “حل عادل ومتفق عليه” دون أي التزام واضح.
من منظور آخر، يمكن القول إن الاعترافات الأوروبية ليست بلا وظيفة. فهي تُستخدم أحيانًا كأداة ضغط ناعمة على إسرائيل، خاصة حين تتصاعد الانتهاكات ضد الفلسطينيين، لإظهار أنّ الغرب لا يقف موقفًا أعمى. لكن في العمق، لا يتجاوز الأمر حدود الإشارة الرمزية، إذ لا يرافقه أي قرار عملي كفرض عقوبات على الاستيطان أو ربط العلاقات مع إسرائيل بمدى التزامها بالقانون الدولي. وبذلك يبقى “الضغط” أقرب إلى غطاء أخلاقي يخفي حالة التواطؤ السياسي المستمرة.
الخديعة إذن مزدوجة؛ الفلسطينيون يُقدَّم لهم وهم “الاعتراف بالدولة” دون أن تُرفع يد الاحتلال عن أرضهم، بينما تُمنح إسرائيل فرصة لتستمر في سياساتها وعدوانها على غزة تحت غطاء أنّ المجتمع الدولي “ما زال يبحث عن حل الدولتين”. وبهذا، يتحول الاعتراف بالدولة الفلسطينية إلى ورقة سياسية في لعبة المصالح الغربية، بدل أن يكون خطوة فعلية نحو العدالة وإنهاء الاحتلال.
إنّ تجنّب التفاصيل في موضوع الدولة الفلسطينية ليس غفلة ولا نقصًا في الرؤية، إنما هو سياسة مقصودة هدفها إبقاء الصراع معلقا في مساحة رمادية تسمح للغرب بأن يقدّم نفسه وسيطا “محايدًا”، بينما يُبقي ميزان القوة راجحا لصالح الكيان الصهيوني. وكلما طال هذا الغموض، ازدادت الهوة بين الواقع المرير على الأرض والشعارات الفضفاضة عن السلام والعدالة.
