عماد العتابي
لم يكن الفيديو الأخير، الذي خرج فيه أحد الأشخاص من الفقيه بن صالح يصف أبناء الريف بـ”الأوباش”، مجرد زلة لسان عابرة أو شجار لفظي عادي. بل كان مرآة عاكسة لذهنية مترسخة في المخيال الجمعي المغربي، وهي ذهنية صنعتها الدولة المركزية منذ عقود، ورعتها عبر خطابها الرسمي والإعلامي، حتى غدت جزءا من الثقافة السياسية والاجتماعية السائدة.
عندما خرج الملك الحسن الثاني في يناير 1984 ونعَت أبناء الريف بـ”الأوباش” خلال احتجاجات الخبز، لم يكن الأمر مجرد توصيف سياسي. لقد كان وصما ممنهجا يختزل منطقة بأكملها، بتاريخها ونضالاتها ومعاناتها، في كلمة تحمل معنى التحريض والتجريم والإقصاء. هذا الوصف لم يختفِ بانتهاء لحظة 1984، بل ترسّخ في الذاكرة الجماعية وأصبح مرجعا جاهزا يعاد إنتاجه كلما أراد أحدهم التعبير عن ازدرائه للريفيين.
الشخص الذي ظهر في الفيديو الأخير لم يبتدع شيئا جديدًا؛ بل استعاد، بوعي أو بغير وعي، إرثا لغويا وثقافيا منبثقا من خطاب الدولة نفسها. وهذا ما يجعل الأمر خطيرا، فنحن أمام سلسلة متواصلة من الوصم تبدأ من أعلى هرم السلطة وتنتهي في فم مواطن عادي.
ما عبّر عنه هذا الشخص ليس مجرد موقف فردي، بل انعكاس لـ”مزاج المخزن” الذي نجح عبر عقود في صناعة صورة سلبية عن الريف وأبنائه؛ متمردون، انفصاليون، عنيفون، “أوباش”. هذا المزاج تسلّل تدريجيًا إلى وعي جزء كبير من المغاربة، فصار كثيرون يتداولونه دون مساءلة أو تفكير في خطورته. هكذا يصبح خطاب السلطة خطابا شعبيا، ويتحوّل القمع الرمزي إلى ثقافة عامة.
إعادة إنتاج هذا النوع من الخطاب لا تضر فقط بالريفيين، بل تهدد النسيج الوطني المغربي ككل. فالتقسيم على أساس جغرافي أو إثني أو لغوي يزرع الشقاق في مجتمع يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى الوحدة في مواجهة تحديات اقتصادية واجتماعية وسياسية متصاعدة. إن من يصف الريفيين اليوم بـ”الأوباش” لا يختلف كثيرا عمن قد يصف غدا السوسيين أو الصحراويين أو غيرهم بصفات قدحية.
المطلوب اليوم ليس فقط معاقبة المسيئين أمام القضاء، بل أيضا فتح نقاش وطني صريح حول إرث العنصرية الداخلية في المغرب، كيف نشأ؟ كيف غذّته الدولة؟ وكيف يمكن تفكيكه؟
إن مواجهة هذه الثقافة تستدعي شجاعة سياسية وفكرية، تبدأ بالاعتراف بمسؤولية الخطاب الرسمي في ترسيخ الوصم، ولا تنتهي عند بناء إعلام وتربية ومناهج تعليمية تحترم التنوع وتحتفي بالاختلاف.

منذ قوس النصر والضحكة العلوية للمستعمر، والمخزن ينتقم من الريف لأنه قاوم حيث هم ركعوا. “الأوباش” ليست كلمة، إنها عقيدة استسلام تُجدَّد ككل.
تحياتي و التقدير رفيقي عماد