في كل مرة يطفو ملف الصحة العمومية على السطح، تسارع الحكومة إلى إطلاق “حملة” تضليل جديدة بإعفاء مسؤول محلي هنا وجهوي هناك، وكأن المشكلة تكمن في الأشخاص لا في المنظومة. لكن، هل يكفي تغيير الوجوه لإنقاذ قطاع مثخن بالأعطاب البنيوية؟
لا تزال أزمة الصحة العمومية في المغرب تفرض نفسها كأحد أعقد الملفات الاجتماعية وأكثرها إلحاحاً. ورغم تعدد المبادرات والحملات التي يُروّج لها على أنها مدخل لحل الإشكال، فإن التجربة أثبتت محدودية هذه المقاربة التي تختزل الأزمة في “الحركة” الإدارية أو في تقديم بعض المسؤولين المحليين كأكباش فداء للرأي العام. إذ لم يعد خافيا أن تغيير الأشخاص من دون تغيير الشروط الموضوعية للعمل لا يُنتج سوى نتائج شكلية، ولا يغير شيئا من واقع المستشفى العمومي.
خلال فترة ولاية الوزير الأسبق خالد آيت الطالب مثلاً، جرى اتخاذ قرارات متكررة بإعفاء مسؤولين جهويين ومحليين، من بينهم المديرة الجهوية لأكادير التي سبق إعفاؤها مرتين حين كانت بمراكش. غير أن هذه القرارات لم تُترجم إلى تحسين ملموس في الخدمات الصحية، ولم ترفع من ثقة المواطنين في المنظومة العمومية. السبب بسيط؛ لأن الأزمة ليست في الأشخاص بقدر ما هي في غياب رؤية متكاملة وإمكانيات مادية وبشرية كافية.
أول ما يطالع الباحث في هذا الملف هو ضعف التمويل العمومي الموجه لقطاع الصحة. فميزانية الصحة في المغرب تتراوح في السنوات الأخيرة بين 6% و7% من الميزانية العامة، في حين توصي منظمة الصحة العالمية بنسبة لا تقل عن 12% إلى 15% لضمان حد أدنى من الجودة والعدالة. هذه الفجوة التمويلية تعني عملياً أن المستشفيات العمومية تفتقر إلى التجهيزات الأساسية، وأنها غير قادرة على استيعاب الضغط المتزايد بسبب النمو الديمغرافي وتوسع التغطية الصحية.
إلى جانب ذلك، يواجه القطاع خصاصا مهولا في الموارد البشرية. فحسب المعايير الدولية، يجب أن يتوفر لكل 10 آلاف نسمة على الأقل 23 من المهنيين الصحيين (أطباء، ممرضون، تقنيون)، بينما لا يتجاوز المعدل في المغرب 7 إلى 9 في أحسن التقديرات. هذا العجز ينعكس مباشرة على الخدمات حيث اكتظاظ في أقسام المستعجلات، طول فترة الانتظار، وضغط نفسي ومهني هائل على الأطباء.
أما على مستوى البنية التحتية، فالكثير من المستشفيات الإقليمية والجهوية تفتقر إلى أدوات التشخيص الأساسية مثل جهاز السكانير أو آلات التحاليل المتقدمة. في بعض الحالات، تكون هذه الأجهزة موجودة لكنها معطلة لفترات طويلة بسبب غياب الصيانة أو قطع الغيار، كما وقع في أكادير. المفارقة الصارخة هي أن هذه الخدمات متوفرة بشكل سلس في القطاع الخاص، ما يعزز الإحساس بالفجوة الطبقية ويغذي فقدان الثقة في القطاع العمومي.
يمكن الاستئناس ببعض التجارب الدولية لفهم أن إصلاح الصحة العمومية ليس مستحيلاً لكنه يتطلب إرادة سياسية واستثمارا طويل المدى:
رواندا، وهي دولة إفريقية محدودة الموارد، تمكنت من بناء منظومة صحية متماسكة بعد الحرب الأهلية عبر سياسة واضحة للاستثمار في الرعاية الأولية، وإشراك المجتمع المحلي، وتخصيص ما يقارب 15% من الميزانية الوطنية للصحة.
تونس بدورها، رغم الأزمات الاقتصادية والسياسية، نجحت في تحقيق تغطية شبه شاملة وخدمات مقبولة في المستشفيات العمومية بفضل سياسة توازن بين القطاعين العام والخاص، وتوزيع أفضل للموارد البشرية بين الجهات.
أما فرنسا، فتقدم مثالاً أوروبياً على أن الاستثمار الكبير في الصحة (حوالي 11% من الناتج الداخلي الخام) ليس ترفاً بل ضرورة لاستقرار المجتمع وتعزيز الثقة في الدولة.
يتضح إذن أن استمرار النهج الحالي في التعامل مع الصحة العمومية كملف ظرفي أو كأداة لتسكين الرأي العام لن يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج الأزمة. الإصلاح الحقيقي يتطلب:
- رفع الميزانية المخصصة للصحة تدريجياً إلى مستوى المعايير الدولية، حتى يصبح الحديث عن تجهيزات وأدوية وأطر طبية أمراً واقعياً لا مجرد وعود.
- إعادة الاعتبار للموارد البشرية عبر التحفيز المادي والمعنوي، وضمان ظروف عمل لائقة، وإقرار سياسة جهوية عادلة لتوزيع الأطباء.
- تحديث البنية التحتية وصيانة التجهيزات بشكل دوري، مع اعتماد شراكات شفافة مع القطاع الخاص من دون التضحية بدور الدولة المركزي.
- تعزيز الحكامة والشفافية، بما يعني ربط المسؤولية بالمحاسبة الفعلية، لكن في إطار مشروع إصلاحي متكامل، لا عبر قرارات متفرقة تفتقد لرؤية استراتيجية.
إن المستشفى العمومي اليوم يعيش بين مطرقة ضعف الإمكانيات وسندان ارتفاع الطلب. وفي ظل هذه المعادلة، فإن أي محاولة للاختباء وراء الأطباء أو المسؤولين المحليين لتبرير الفشل ليست سوى هروب إلى الأمام.
المستشفى العمومي هو مرآة العدالة الاجتماعية. وإذا استمر التعامل معه بمنطق التسكين والحملات المؤقتة، فإن الفجوة بين المواطن والدولة ستتسع أكثر. لأن الإصلاح الحقيقي يبدأ من الاعتراف بأن الصحة ليست عبئا على الميزانية، إنما استثمار في الإنسان، وضمانة لكرامته.
