محمد المساوي
أفهم تماما النقاش الذي أثاره بعض الزملاء حول وجوب تغطية وجوه أعضاء لجنة الأخلاقيات في الفيديو المسرب، بدعوى احترام أخلاقيات المهنة، وخاصة ما أثارته الاستاذة فاطمة الافريقي في حوار مع يونس مسكين.
هو في الحقيقة هذا الذي اثارته فاطمة، هو نقاش مشروع في حد ذاته، بل وصحيّ، لأنه يعكس حرصا على صيانة المعايير المهنية. وشخصيا اقدر جرأة الاستاذة فاطمة في طرحها لهذا النقاش في ظل هذه الظروف المشحونة؛ فأن تملك الجرأة على مساءلة الذات هو عنوان صحة وسلامة، لا عنوان ضعف وتردد.
لكن الإشكال في تقديري يكمن في فهم “أخلاقيات المهنة” بوصفها قواعد ثابتة جامدة تطبق خارج سياقها (كما فهمتها الاستاذة فاطمة)، بينما هي في الأصل منظومة مرنة، تتغير وتتأثر بالمجتمع الذي تتحرك داخله، وتخضع دائما لمبدأ مركزي هو: التناسب بين الحق المراد حمايته وبين المصلحة العامة التي يستوجب تحقيقها أحيانا تجاوز بعض القواعد الشكلية.
شخصيا افهم الاستاذة فاطمة، هي في قرارة تفسها لا تريد مبادلة الظلم بالظلم، تريد التمسك بأخلاقيات المهنة وحماية الاخرين من الظلم حتى وإن كنا ضحايا لظلمهم، لكن، ما لم تفهمه الاستاذة فاطمة، هو وضع هذه الاخلاقيات في سياقها المجتمعي وعدم النظر اليها كما لو انها قواعد جامدة، او قواعد متعالية على المجتمع، مجردة ثابتة. فحين ندافع عن فكرة تغطية الوجوه، نفترض ضمنيا أن أعضاء اللجنة في موقع من يحتاج إلى حماية من التشهير أو الاعتداء على حياته الخاصة. لكن الواقع مختلف: هؤلاء يمارسون صلاحيات عمومية داخل اجتماع رسمي، هذا الاجتماع نفسه يتلقون عليه تعويضات من أموال دافعي الصرائب، ولسنا امام حالة اجتماع خاص، هو اجتماع، رغم سريته، لكنه منذور لاتخاذ قرارات لها أثر مباشر على حقوق الصحافيين وعلى الثقة العامة في القطاع. وبالتالي، لا يمكن التعامل مع ظهورهم في هذا السياق كما لو أنهم أشخاص عاديون أو ضحايا تسريب يطاول حياتهم الخاصة، لأن الأمر يتعلق بسلوك وظيفي لا بسلوك شخصي. وختى قواعد اخلاق المهنة كما سطرها ميثاق ميونيخ لاخلاقيات الصحافة، او تلك المعتمدة من طرف الاتحاد الدولي للصحافين، هناك: عدم الاضرار غير المبرر للاشخاص، لكن ايضا هناك خدمة المصلحة العامة، ومن تحصيل الحاصل، اذا افترضنا حضور الاثنين، وجب تغليب خدمة المصلحة العامة، وهذا ما يدخله تحت اطارع العمل الذي قام به الصحافي Hamid Elmahdaouy .
المبدأ نفسه نجده في مثال معروف في أخلاقيات الصحافة: حماية المصدر. هذا مبدأ يكاد يكون مقدسا في المهنة، لكنه ليس مطلقا. فحين يتعلق الأمر بخطر داهم يهدد الأمن العام، أو بوقائع لها تأثير خطير على سلامة المجتمع، تُقدّم المصلحة العامة على قاعدة السرية، ويصبح الكشف عن المصدر أمرا مشروعا وربما واجبا. ليس لأننا تخلّينا عن الأخلاقيات، بل لأن الأخلاقيات نفسها تشتغل بمنطق التناس مع المصلحة العامة، لا بمنطق الصنمية.
بالقياس على ذلك، السؤال هنا ليس: هل نغطي الوجوه أم لا؟ بل: ما الذي يخدم المصلحة العامة؟ وهل إخفاء هوية أشخاص يمارسون سلطة تأديبية داخل مؤسسة عمومية، في لحظة تظهر فيها قرائن انحراف مهني أو سوء استعمال للسلطة، يخدم الشفافية؟ أم أنه يرفع عنهم المسؤولية السياسية والأخلاقية، ويعوق الحق المشروع للجمهور في معرفة ما يجري داخل الهيئة التي يفترض أنها تحمي المعايير المهنية؟
الأخلاقيات ليست قيدا يفرض إخفاء الحقيقة، بل إطارا لضمان ألاّ يُستخدم النشر للإساءة او التشهير من دون مبرر. وفي هذه الحالة، الوجوه ليست تفصيلا شخصيا، بل جزءا من بنية المسؤولية. نحن لا ننشر هذه الوجوه لأننا نريد الإساءة لأشخاص، بل لأننا نريد مساءلة من يمارسون سلطة على الحقل الإعلامي، ولأن كشف الهوية هنا عنصر من عناصر فهم ما جرى.
حين يظهر خلل داخل مؤسسة مكلفة بضمان المهنية، فالمصلحة العامة تقتضي الوضوح لا الإخفاء. والتناسب يقتضي أن نميز بين إضرار بالحياة الخاصة وبين كشف لسلوك وظيفي يؤثر على الشأن العام. ولا يمكن لأخلاقيات المهنة أن تتحول إلى غطاء لحماية مسؤولين عموميين من تبعات أفعالهم، بينما تُستخدم المعايير نفسها لمحاسبة الصحافي على كل كلمة.
ختاما، ما أدعو إليه شخصيا ليس التخلي عن أخلاقيات المهنة، بل قراءتها قراءة سياقية، تدرك أن الصحافة ليست مجرد تطبيق حرفي لقواعد، بل ممارسة تخضع دوما لميزان دقيق بين الحقوق، أولها المصلحة العامة وآخرها راحة المسؤولين وخصوصيتهم. وإذا اختل هذا الميزان، فقدنا جوهر دورنا: خدمة الحقيقة، لا خدمة أشخاص.
هذا ما كان
