عماد العتابي
في اليومين الأخيرين، أثار حديث الصحفي الجامعي على منصة ديسكورد حول الأمازيغية جدالا واسعا على منصات التواصل الاجتماعي. اللافت للنظر ليس محتوى النقاش مع شباب جيل “زاد” الذي كان نقاشا عاديا وصحيا، بل الهجوم الذي تبعه من بعض المتابعين والنشطاء والصحفيين، حيث وصل البعض إلى ربط الأمازيغية بالصهـ.يونية وبما لا يمتّ إليها بصلة، واتهامها بأجندات خارجية، أو تصنيف الأمازيغ “أقلية” في بلادهم. وهذه الادعاءات ليست مجرد مغالطات، إنما تعكس جهلا بالتاريخ، وفهما سطحيا للهوية والثقافة في شمال إفريقيا.
إن القول إن الأمازيغ “أقلية” في المغرب أو الجزائر أو ليبيا يشبه القول إن البرازيليين “أقلية” في بلادهم لمجرد أنهم يتحدثون البرتغالية، لغة المستعمر. فالأمازيغ ليسوا ضيوفا على الأرض التي يعيشون فيها منذ آلاف السنين، بل هم السكان الأصليون لهذه المنطقة، وجذور تاريخها الممتد قبل أي دخول عربي أو تأثير عثماني أو أوروبي.
الأمازيغية ليست مجرد لغة، بل هي حامل هوية شعبية وثقافية منذ آلاف السنين. والأدلة الأثرية واللغوية تؤكد أن الأمازيغ كانوا السكان الأصليين لشمال إفريقيا قبل الغزو البربري العربي، وأن حضارتهم وثقافتهم كانت متكاملة، تشمل الزراعة، التجارة، الفنون، والممارسات الاجتماعية والسياسية المنظمة.
مع الغزوات العربية/الأموية، بدأت العربية تدخل تدريجيا في المنطقة، لكنها لم تلغِ الأمازيغية، بل تأثرت بها وتداخلت معها. على الرغم من ذلك، حاولت بعض السياسات اللاحقة تهميش الأمازيغية، واعتبارها لغة هامشية لا تمتلك مشروعا ثقافيا أو سياسيا مستقلا، وهو ما يشبه محاولات فرض لغات المستعمر على شعوبها الأصلية في أجزاء أخرى من العالم.
الخلط بين اللغة والانتماء هو أحد أكثر أشكال التلاعب الفكري شيوعا. فالتحدث بالعربية لا يعني تلقائيا أن المرء “عروبي الهوية”، كما أن التحدث بالأمازيغية لا يجعل المرء “منسيا” أو “مهمشا”. اللغة أداة تواصل، وليست بطاقة هوية أو مؤشرا على الولاء السياسي.
المثال البرازيلي يُظهر هذا بوضوح، فالبرازيليون كلهم مواطنون في بلدهم، رغم تحدث معظمهم باللغة البرتغالية التي فرضها المستعمر. بالمثل، الأمازيغ يتحدثون العربية أو الفرنسية أو الاسبانية لأسباب تاريخية واقتصادية، لكن هذا لا يمحو أصلهم الأمازيغي ولا تاريخهم في المنطقة.
ربط الأمازيغية بأجندات خارجية، بما في ذلك الادعاءات حول الصهـ.يونية، هو مثال واضح على التشويه المنهجي. هذه الاتهامات تُستخدم لتخويف الجمهور وإقناع المجتمع بأن المطالبة بالاعتراف بالأمازيغية ليست مطالبة ثقافية، بل تهديد سياسي. الحقيقة أن الأمازيغية لم تكن يوما أداة سياسية ضد أحد، بل هي وسيلة للتعبير عن ثقافة وهوية مستقلة، قائمة على الأرض والتاريخ.
وعلى مدى القرون، واجهت الأمازيغية تحديات مختلفة، من سياسات التهميش اللغوي في العصور الوسطى، مرورًا بمحاولات استيعابها في إطار الدولة الحديثة تحت حجج “الوحدة الوطنية”، وصولاً إلى نقاشات القرن الواحد والعشرين حول تعليم اللغة الأمازيغية واعتبارها لغة رسمية.
التاريخ يوضح أن كل محاولات طمس الهوية الأصلية للشعوب لا تُنتج وحدة حقيقية، بل تؤدي إلى انفصام ثقافي، شعور بالاغتراب، وتراجع الاحترام المتبادل بين مكونات المجتمع. على العكس، الاعتراف بالتنوع الثقافي واللغوي هو ما يتيح تأسيس مجتمع قوي ومتماسك.
الأمازيغية ليست مجرد وسيلة تواصل؛ هي وعاء الثقافة والفكر الشعبي. الشعر الشفوي، الموسيقى، الأساطير، الطقوس، جميعها تحمل هوية الأمازيغ، وتؤكد مكانتهم التاريخية في شمال إفريقيا.
إن محاولة ربط الأمازيغية بأجندات خارجية تكشف عن ضعف من يستخدم هذه الحيلة، لأن القوة الحقيقية للهوية تكمن في جذورها التاريخية وعمقها الثقافي.الاعتراف بالأمازيغية هو تصحيح للتاريخ ومصالحة مع الذات الوطنية.
المجتمعات التي تحاول قمع تنوعها الثقافي واللغوي تفقد القدرة على البناء المستدام والمشاركة في الحوار الحضاري العالمي. الدفاع عن الأمازيغية اليوم ليس مجرد حماية للغة، بل حماية للذاكرة الجماعية وللإنسانية الأصيلة في المنطقة.
إن الأمازيغية حق مشروع لكل مواطن مغربي، وهي مشروع انتماء عميق، ممتد عبر الزمن. الهجمات على لغتهم وثقافتهم هي في الحقيقة هجوم على التاريخ نفسه. المجتمعات التي تحترم تاريخها، وتحمي تنوعها الثقافي، هي المجتمعات القادرة على المستقبل. أما من يحاولون اختزال الهوية في لغة واحدة أو ربطها بأجندات خارجية، فمصيرهم الفشل في فهم حقيقة هذه الأرض وأهلها
