عماد العتابي
عيزي أحمد،
منذ سماعي خبر وفاتك أمس لم يغمض لي جفن، غلبني الحزن عليك، وسيطر عليّ الخوف مما ينتظرني في المستقبل.
عيزي أحمد، كلما التقيتك في هولندا أو بلجيكا أو فرنسا، كنت أشم فيك رائحة الريف وأبي وأحبتي اللذين لم أرَهم منذ اثنتي عشرة سنة. كنتَ بالنسبة لي نافذة أمل، ووجهك البهي كان يضيء عتمة غربتي. كنت أقول لنفسي: ها هو عزي أحمد، يسير بيننا ويكافح لرؤية ابنه، فكيف لي أن أتوقف أنا عن النضال لرؤية أبي وأمي؟
لكنني، حين وصلني الخبر، ارتجفت خوفًا. بكيت بكاءً صامتًا، بلا دموع، فنحن أبناء الريف تجف دموعنا قبل أن نولد.
خفت أن أفقد عزيزًا آخر دون أن أودّعه، دون أن أُلقي عليه النظرة الأخيرة. خفت ألا أحظى بعناق أخير يمدني بالقوة، وأني سأبقى في هذه البلاد الباردة، محرومًا من دفء حضن أمي وأبي.
رحيلك يا عيزي أحمد جعلني وجعل جيل من المنفيين ننظر في المرآة ونتذكر أننا لم نختر الغربة، بل أجبرنا عليها، نعيش حياة مؤقتة لا تنتهي معلقة بينك وطن يستحيل الوصول إليه وغربة تنهش روحنا يوماً بعد يوم.
في هذه اللحظة، حتى وإن لم يكن الوقت مناسبًا، أغبط ناصر لأنه سيتمكّن من رؤيتك للمرة الأخيرة، سيمشي في جنازتك، وسيتلقى التعازي فيك، لكن انا خائف… خائف أن يبتلعني المنفى أكثر فأكثر، أن يسرق منّي حتى حق الوداع الأخير، أن أظل سجين الغياب لا أملك إلا أن أكتب.
رحلتَ يا عيزي أحمد، جسدك الآن تحت ثرى الوطن، وأنا هنا في المنفى منفي عن تراب بلدي، غريب ووحيد. كأن القدر كتب علينا نحن أبناء الريف أن نتقاسم الوجع بطرق مختلفة؛ أنت بالموت، ابنك بالسجن، وأنا بالمنفى.
لكنني، رغم الألم، أعدك أنني لن أستسلم. سأظل أكتب عن المنفى كجرح سياسي وإنساني، عن اللاعدالة التي تسرق أعمارنا، عن حقنا في وطن لا يُطرد منه أبناؤه. سأظل أكتب لأن الكتابة هي السلاح الأخير الذي لم يسحبوه منا بعد، ولأن موتك يا عيزي أحمد، بدل أن يُسكتنا، سيزيد أصواتنا قوة.
رحمك الله، أيها العزيز الذي حملت اسمه وصفته معا. ستبقى بالنسبة لنا رمزًا، وسنبقى أوفياء لذاكرتك، ونروي قصتك، وقصصنا جميعا، حتى لا يكون المنفى مجرد رقم في تقارير المؤسسات الدولية، بل جرحا نازفا في جسد الإنسانية جمعاء.
