لاهاي/ هولندا
في خطوة غير مسبوقة منذ عقود، أعلنت الحكومة الهولندية عن بدء توزيع كتيّب طوارئ على جميع المنازل في البلاد، يشمل جميع المواطنين الهولنديين وغير الهولنديين على حد سواء. يأتي هذا الإجراء وسط تزايد القلق الأوروبي من أزمات متعددة الأبعاد، تتراوح بين الهجمات السيبرانية والاضطرابات الجيوسياسية (حرب مع روسيا) والتغير المناخي. الكتيب يشرح للسكان كيفية الاستعداد لمواجهة أية ظروف طارئة قد تُعطّل قدرة الدولة على التدخل السريع.
ورغم أن هولندا تُعد واحدة من أكثر دول العالم استقرارًا وتنظيما، فإن نشر هذا الدليل واسع الانتشار يشي بتغير في العقلية الرسمية تجاه فكرة “الأمان الدائم”. فالحكومة لم تكتفِ بالإشارة إلى ضرورة الوعي بالمخاطر، بل انتقلت إلى مرحلة توجيه المواطنين لامتلاك احتياطات شخصية، تشمل الماء والغذاء والأدوية الضرورية والوثائق المهمة وخطط التواصل العائلية. والرسالة جاءت واضحة وصريحة، في الأيام الأولى من أي أزمة، قد يكون الاعتماد على الذات ضرورة لا بديل عنها.
هذا التحول ليس معزولًا عن المناخ الدولي. فالحرب في أوكرانيا، والتوترات المتزايدة بين القوى الكبرى، والهجمات السيبرانية التي تضرب مؤسسات حيوية في أوروبا، كلها عوامل دفعت الدول الغربية إلى إعادة النظر في منظوماتها الدفاعية وشبكات الأمان الخاصة بها. لكن الجديد في التجربة الهولندية هو نقل هذا الوعي من غرف المؤسسات الأمنية إلى منازل المواطنين مباشرة، كما لو أن الحكومة تريد أن تقول إن حماية المجتمع تبدأ من وعي أفراده.
الكتيّب الذي توزّعه السلطات على نحو ثمانية ملايين ونصف المليون منزل لا يقدم فقط توجيهات عملية، بل يعكس فلسفة جديدة “المرونة المدنية”. وهي فكرة تقوم على أن الدولة مهما بلغت قوتها التقنية والتنظيمية، قد تجد نفسها في ظروف لا تستطيع فيها الوصول إلى الجميع في اللحظة الأولى. لذلك يصبح المجتمع شريكًا في الأمن، وليس متلقيًا له فحسب. هذا التوجه كان شائعًا في دول شمال أوروبا منذ عقود، لكنه اليوم ينتقل إلى قلب أوروبا الغربية، في مؤشر على تزايد الإحساس بأن العالم يدخل مرحلة أقل يقينًا.
المثير للاهتمام أن الكتيّب متوفر بعدة لغات، من بينها العربية والإنجليزية والصينية، ما يعكس إدراك الحكومة لتنوع المجتمع الهولندي، ومحاولة وصول الرسالة بشكل لا يترك أي فئة خارج دائرة الوعي. كما أن تضمين نصائح حول التنسيق مع الجيران وتقييم المخاطر المحلية يوحي برغبة في تعزيز الروابط المجتمعية، بوصفها أحد عناصر الصمود في الأزمات.
ورغم أن المسؤولين حاولوا طمأنة المواطنين والتأكيد على أن الهدف “ليس التخويف”، فإن كثيرين قرأوا الخطوة على أنها اعتراف صريح بأن المستقبل يحمل تحديات أكبر مما اعتاد عليه الأوروبيون خلال العقود الماضية. البعض رأى فيها استشعارًا مبكرًا لمخاطر قد تكون في الأفق، بينما اعتبرها آخرون إجراءً حكيمًا ينسجم مع عالم سريع التقلب، حيث قد يؤدي انقطاع الطاقة أو هجوم إلكتروني يؤدي إلى شل الحياة اليومية لبلد بأكمله.
في المحصلة، لا يبدو أن الكتيّب مجرد دليل منزلي، بل إشارة إلى بداية مرحلة جديدة في علاقة الدولة بالمجتمع، حيث يصبح الاستعداد مسؤولية تشاركية، ويغدو الوعي الأمني جزءًا من الثقافة اليومية. وربما يكون هذا التحول هو ما يحتاجه العالم بالفعل في مرحلة تتسارع فيها الأحداث وتتغير فيها معايير الأمان بوتيرة غير مسبوقة.
