عماد العتابي
في كل تجربة سياسية تعرف لحظات احتقان، تظهر وجوه جديدة تتحدث بلغة الناس، تتبنى قضاياهم، وتبدو وكأنها صوت نادر في محيط صاخب بالمصالح. مايسة سلامة الناجي ظهرت بهذه الصورة: مثقفة شابة، مستقلة، جريئة، تهاجم السلطة الاقتصادية، تنتقد التحكم، وتخاطب فئات واسعة حرمت من التمثيل الحقيقي. لكن ما تكشفه التحولات الأخيرة، والتسريبات الخطيرة التي وردت على لسان الصحافي نور الدين لشهب، يضع كل هذا التاريخ تحت المجهر، وربما تحت الشك المشروع.
فحين يُقال إن مايسة تلقت مبالغ مالية كبيرة من طرف عزيز أخنوش لإسقاط عبد الإله بنكيران، في لحظة حساسة من التفاوض الحكومي، فإننا لا نتحدث عن انحراف رأي أو خطأ سياسي، بل عن شبهة تورط مباشر في توجيه مسار سياسي مقابل أجر. وهي ليست اتهامات عابرة، بل مؤشرات على احتمال أكبر، أن مايسة، منذ البداية، لم تكن سوى واجهة محسوبة على جهاز أو منظومة نفوذ تدير جزءا من المشهد الرمزي من وراء الستار.
سياق صعودها السريع، وانتشارها الواسع، وطبيعة المواضيع التي ركزت عليها، ثم تحوّلها الحاد لاحقا، كلها عناصر لا يمكن اليوم قراءتها خارج فرضية أن وجودها في المشهد لم يكن صدفة ولا استقلالا حقيقيا، بل وظيفة مبرمجة بعناية.. تسويق خطاب احتجاجي ناعم، يتم سحبه في الوقت المناسب، وتوجيهه بحسب الحاجة.
نحن لا نتحدث هنا عن معارضة تغيرت، بل عن مشروع تواصلي قد يكون اشتغل، من حيث يدري أو لا يدري المتلقون، كأداة ضمن خطة أكبر، تمكن عبرها جزء من الأجهزة أو شبكات النفوذ من اختراق المجال الرقمي وتطويعه، في غياب الإعلام التقليدي عن أداء دوره النقدي.
إن خطورة مايسة لا تكمن فقط في تلون خطابها، بل في كونها قدمت نفسها كصوت بديل، مستقل، نزيه. وهذا ما يجعل المسألة أشد تأثيرا من فساد سياسي تقليدي. من السهل أن يعرف الناس حدود السياسيين، لكن من الصعب أن يكشفوا خداع من يُتقن تمثيل الاستقلالية. وهذا تحديدا ما يعري أزمة الثقة العميقة التي تتغذى على مثل هذه النماذج.
مايسة لم تسقط في لحظة، بل تم إسقاط قناعها على مراحل، إلى أن ظهرت بشكلها الأخير، مدافعة عن السلطة، ناطقة باسم من كانت تنتقدهم، بلا حرج. وهذا ما يستوجب مساءلة لا تقف عندها فقط، بل تشمل البيئة التي صنعتها، وروّجت لها، وساهمت في إقناعنا بأنها كانت تمثلنا.
الأمر لم يعد يخص فردا، بل يهم نموذجا. نموذج “المثقف المندمج” الذي يلبس قناع المعارضة، بينما يعمل من داخل البنية نفسها التي يدّعي محاربتها. لذلك، فإن التحقيق في هذه القضية، إن صحت، لا يجب أن يكون أخلاقيا أو إعلاميا فقط، بل قانونيا، يتقصى إن كنا أمام حالة ارتزاق سياسي فعلي، بتمويل مقصود لتوجيه الرأي العام في لحظات دقيقة.
إن مايسة ليست مجرد شخصية مثيرة للجدل، بل نموذج متكامل لفشلنا الجماعي في التمييز بين الصوت الحقيقي والصدى المصنوع. وإن لم نواجه هذا النوع من “التأثير المؤجَّر” الآن، فسوف نفتح الباب أمام أجيال جديدة من المتحدثين باسم الشعب، بينما هم يمثلون، في العمق، السلطة التي يُفترض أن نعارضها.
