تاشفين الأندلسي
كيف ومن أوصل المزاج الشعبي إلى رفض التنظيم بكل أشكاله وأعدم الثقة نهائياً في التنظيمات كيفما كانت، من دون أي تمييز؟ هنا وجب الفصل بين المزاج الشعبي الجماهيري ودعاية المرتزقة التي تسير وراء هذا المزاج للاستثمار فيه.
هذا المزاج نتج عن عوامل لا حصر لها. فالمزاج الشعبي كما هو معرّف باسمه كـ”مزاج”، ينطلق من التجربة من دون فهم الأسباب العميقة والبنيوية التي أدت إلى هذا التردي الشامل وانسحاب معظم الأحزاب واصطفافها إلى جانب الحكم، متخذين أدواراً حددها لهم النظام بعد مسلسل طويل من نزع الأنياب والتخريب الداخلي، عبارة عن خيانات متتالية منها ما هو معروف ومنها غير المعروف، ثم عزل المناضلين المبدئيين وتهميشهم بمساعدة الأجهزة والسلطة. كل ذلك مرتبط بموازين القوى الداخلية المرتبطة هي بدورها أيضاً بموازين قوى خارجية في إطار نظام عالمي تتصارع فيه القوى.
هذا المآل كانت له نتائج كارثية على حياة الجماهير بعد الاستفراد المطلق للنظام بمقدرات البلاد بمساهمة هذه الأحزاب مقابل الريع والمشاركة في الفساد. هذا ما أدى إلى هذا المزاج العام الرافض لأي انخراط سياسي منظّم أو على الأقل الثقة في أي حزب، وذلك بلا تمييز، لأن الأغلبية الساحقة من الأحزاب دخلت دار أبا سفيان تحت عنوان “أولاد عبد الواحد كلهم واحد”، مع تراجعات وخيانات أفراد كانوا في واجهة المعارضة الجذرية في مرحلة معينة ثم أصبحوا خدماً لأعتاب الدولة، مما أدى إلى انتكاسات كبيرة جداً.
هذه الممارسة لا تخص بلداً دون غيره، بل هو مخطط عالمي لدفع الجماهير خارج التنظيمات الثورية، ليسهل على الأنظمة التبعية السيطرة على المجتمع في كل الحالات ولو خرج عن بكرة أبيه إلى الساحات، لتكون النتيجة “إما النظام الاستبدادي العميل أو يخرب البلد”. مع أن النتيجة المرجحة دوماً هي الاستيعاب السهل لجماهير غير منظمة ولا تملك هيئة أركان سياسية تخوض بها الحرب الطبقية وفق تكتيكات محددة لكل مرحلة.
لكن هل هذا يعني أن دور الحزب قد انتهى في المجتمع مقابل الحكم؟ لا أبداً. الحزب حاجة اجتماعية كالماء حاجة طبيعية للحياة. يبقى السؤال: من هو هذا الحزب؟ إنه الحزب الثوري أو المفكر الجماعي للثورة المنظمة. هو وحده من يمكن له حسم السلطة السياسية التي هي أصل كل السياسات، اقتصادية واجتماعية من صحة وتعليم وسكن وثقافة ورفاهية… الخ، وتحقيق المساواة التامة ينتفي فيها استغلال الإنسان للإنسان.
فإذا كان المزاج الشعبي بعد كل هذه التجارب البئيسة والأليمة والخيانة المتكررة قد حصل عنده هذا النفور، وهو معذور في ذلك، لكن يبقى السؤال الأهم: ما هو دور المرتزقة من شريحة حزمة البعر البرجوازية الصغيرة التي تعمل ليل نهار على تعميق هذا المزاج وهي تعرف كما أعرف أن التغيير بلا أدوات تنظيمية واضحة غير ممكن رياضياً؟ كل واحد أو كل فئة من هؤلاء لها أسبابها وأهدافها؛ منها من يئست من الحصول على نصيبها من الريع والفساد، ومنها تلك المتذبذبة التي لا يعجبها العجب في رجب تلبية فقط لنرجسية مفرطة، ومنها من لازالت تأمل في الحصول على فتات في لحظة معينة.
تنبيه هام جداً: هذا موقفي وهذا الذي أراه في هذا الموضوع وليست لدي أية طموحات سياسية أبداً ومن أي نوع. أنتمي إلى هذا الشعب، إلى قلب هذا الشعب، لكنني لا أتردد في نكأ الدماميل المتضخمة وأؤكد أن لا تغيير كيفما كان من دون أدوات التغيير، وفي مقدمتها الحزب الثوري. ومن دون ذلك فهو السراب الذي يأتي كل مرة. إن الحركات الاجتماعية استنفدت أدوارها على الآخر، وتبين بالملموس أنها في المحصلة تزيد الشحمة في ظهر المعلوف إن لم أقل في مؤخرته. ولذلك، أي حركة لا تتطور تنظيمياً، على الأقل على شكل جبهة سياسية منسجمة في حدها الأدنى، فإنها سراب تدفع إلى المزيد من اليأس، فيأتي جيل آخر ليكرر التجربة مثل أسطورة سيزيف والصخرة.
إضافة، لا يجب أن يعتقد أي واحد أن المطالب المرفوعة اليوم لم تُرفع في كل المراحل السابقة في إطار الصراع مع النظام، لكنها لم تُلبَّ. لماذا لا يتساءل الشباب هذا السؤال لسبر أغوار الجواب؟ هل بإمكان هذا النظام، وبهذه التركيبة والصفة، أن يلبي هذه المطالب رغم بساطتها؟ ولماذا لا يلبيها؟ عزيزاتي أعزائي، هذا النظام دخل في رهن البلاد بشكل مباشر بداية ثمانينيات القرن الماضي بعد أن كان أصلاً مرتبطاً بالمستعمر بعد تفاهمات إيكس ليبان. ومن دون فهم هذا المسار الطويل بكل مآسيه العظيمة لن يكون هناك حل للمطالب المطروحة اليوم. طبعاً، حلها ليس بالطريقة التي يبسطها الشباب في هذه المرحلة للأسف.
