تُعتبر حرية التعبير من أعمدة المجتمعات الديمقراطية، فهي تتيح للأفراد التعبير عن آرائهم وأفكارهم دون خوف من العقاب. غير أن هذه الحرية، مهما كانت واسعة، لا تعني الإطلاق المطلق، ولا تمنح الحق في إهانة معتقدات الآخرين أو السخرية من مقدساتهم وسبها، خاصة حين تشكل هذه المعتقدات جزءًا من هوية جماعية عميقة الجذور.
هناك فرق شاسع بين أن تقول “أنا لا أؤمن” وأن تقول “سأهين كل من يؤمن”. لكن في زمن الضوضاء الرقمية، ضاع الخط الفاصل، وصار بعض من يرفعون شعار الحرية يتعاملون مع المقدسات وكأنها لوحة جدارية في الشارع، يحق لأي أحد أن يلطخها بالطلاء متى شاء، ثم يصرخ: “هذه حرية!”.
في كل مرة يخرج فيها صوت يعلن أنه “حر” و”تحرر من قيود الدين”، نجد أنفسنا أمام مشهد يتكرر، سبّ صريح، سخرية من المقدسات، وادعاء بأن هذا هو قمة حرية التعبير. لكن هل فعلا الحرية تعني أن تُهين ما يقدسه الآخرون؟
والمثير للدهشة أن بعض من يرفعون شعارات الدفاع عن الحريات، لا يكتفون بممارسة حقهم في الاختلاف، بل يسعون عمدا لاستفزاز مشاعر الملايين، وكأنهم يقولون: “لن نكتفي برفض ما تؤمنون به، بل سنهينه أمامكم”. وهنا يتحول النقاش من ساحة الفكر إلى ساحة التحقير، ومن مواجهة الأفكار إلى طعن الهويات.
قضية ابتسام لشكر ليست مجرد صورة على “فيسبوك”، بل مرآة لظاهرة تتسع، لأشخاص يخلطون بين الجرأة الفكرية والوقاحة العلنية. إن رفض الدين أو انتقاده حق مشروع في أي مجتمع يحترم التعدد، لكن تحويل هذا الحق إلى أداة استفزاز رخيص، لا علاقة له بالنقاش الفكري ولا بتحرير العقول، بل هو وقود للكراهية والانقسام.
من المثير للسخرية أن هؤلاء الذين يهاجمون الدين بحجة الدفاع عن الحريات، هم أول من يطالبون بالحماية إذا مسّ أحدهم بسخريته أو أسلوبه. يتحدثون عن “المسّ بالمشاعر” عندما يتعلق الأمر بهم، لكنهم يرون مشاعر الملايين مباحة للسخرية والامتهان. أليس هذا قمة الازدواجية؟
والحقيقة أن هذه الممارسات لا تهدد الدين بقدر ما تهدد الحرية نفسها. فهي تمنح التيارات المتشددة الذخيرة التي تحتاجها لتبرير التضييق، وتضعف موقف المدافعين الحقيقيين عن حرية الرأي، الذين يحاولون إقناع الناس بأن الحرية لا تعني الفوضى.
التاريخ يعلمنا أن الأفكار لا تنتصر بالإهانة، بل بالحجة. وكل من يتصور أن شتم المقدسات هو طريق “تحرير العقول”، فهو في الحقيقة لا يحرر شيئًا، بل يغلق الأبواب أمام أي حوار جاد.
إن المجتمع الذي يخلط بين “حرية التعبير” و”حرية الإهانة” لن يربح سوى مزيد من الاستقطاب، وانقسام الناس بين من يرى الحرية خطرا يجب قمعه، ومن يمارسها كسلاح لإثارة الفوضى. وفي الحالتين، الخاسر الأكبر هو التعايش، والضحية الأولى هي الحرية نفسها.
