قدسيّة الدولار
لم يعد الدولار مجرّد ورقة نقدية، ولا رقمًا عابرًا، ولا رمزًا بريئًا. بل هو، في نسيج الدلالة المهيمنة لرأس المال، أحد أخطر الأسلحة في الحرب الاقتصادية العالمية. قوته التدميرية لا تكمن في وظيفته كعملة أو في تأثيره المالي فحسب، بل في الهالة التي تحيط به، في الاستعمار الأيديولوجي الذي جعله رمز الحداثة الرأسمالية.
إنّه أداة ذات قدرة تفجيرية عالية، تُستخدم لتأديب الشعوب، وتخريب الاقتصادات، ونسف المسارات التحرّرية، وتحصين الامتيازات الإمبريالية..
الدولار أكثر من أداة مالية، هو علامة كبرى وهيمنة تدّعي الألوهية، وقد تحوّل إلى ديكتاتور يقيس كل شيء: من قيمة العمل إلى قيمة البشر، من النفط إلى الخبز، من الحياة إلى الموت، جميعها تخضع لهيمنته الرمزية. هذا الرمز يجعل حتى ضحاياه يعيدون إنتاجه بخوف وخنوع.
هيمنته لا تقوم فقط على كونه عملة الاحتياط العالمية، أو لأنه مدعوم بالقوة العسكرية الأميركية، بل لأنه ترسّخ في نسيج الدلالة الجمعي للشعوب، كطليعةٍ في “المعركة الثقافية” البرجوازية، وكمرادف للنجاح والتقدّم و”حرية السوق”.
يتحوّل إلى مقدّس حين يُخفى تاريخه، ويحجب عنفه التكويني. وهي عملية أيديولوجية تشترك فيها الصناعات الثقافية، والمؤسسات الأكاديمية، والمنظمات الدولية، والأدوات الإعلامية، لإدامة الإيمان بهذه الورقة وكأنها قانون طبيعي.
الدولار هو صنم “العالمية المحايدة”، أي القومية الإمبريالية المقنّعة بعباءة الحياد.
“قيمته” ليست اقتصادية بحتة، بل نتاج بنية أيديولوجية وجيوسياسية بُنيت على الدم والحروب والانقلابات والحصار والنهب. لغته الهمجية هي لغة الرأسمالية نفسها: تجريدات لا إنسانية تُشرعن بخطابات وتصنيفات وقرارات بنوك مركزية وخوارزميات ومؤسسات تقييم إعلامية تنشر الطاعة النقدية والأخبار الزائفة.
يُستخدم الدولار كذخيرة في حربهم الاقتصادية والرمزية. لا تُخاض الحرب فقط بالعقوبات أو التضخم أو الدين، بل، أولاً، بالذخيرة الأيديولوجية. الدولار هو الرصاصة، ولكن البارود هو المعنى الذي يلفّه ويُطلقه داخل المخيلة الجماعية.
العلامة النقدية تستعمر الرغبة، وتشكل تصوّر القيمة. وفي البلدان المستعمَرة، تتشابك “الدولرة الثقافية” مع “الدولرة المالية”: يُعلَّم الناس أن يفكروا بالدولار، أن يحلموا به، أن يقيسوا كرامتهم من خلاله. إذا لم يُحتسب الراتب بالدولار، فهو مُهين. وإذا لم ترتبط الأسعار به، فهي “متأخرة”. يصبح الدولار معياراً للحقيقة والباطل، للنظام والفوضى، للعقاب والمكافأة.
وفي خطاب التكنوقراط وأنبياء التجارة الحرة، يُستحضر الدولار كعرّاف لا يُردّ له قول، لتبرير تسريحات العمال، وإغلاق المدارس والمستشفيات، ورفع الدعم. “ارتفع الدولار”، تقول النشرات، وكأننا أمام زلزال طبيعي، دون تفسير مَن يحرّكه، ومَن يربح.
هذا الطقس ليس عفوياً، بل هو نتاج عقود من التربية الأيديولوجية للرأسمالية. أصبح الدولار رمزاً للحرية الفردية، وللاستهلاك المرغوب، وللنجاح والحداثة.
فالدولار لا يفرض فقط شروط الاقتصاد الكلي، بل يفرض اللغة، يفرض خرائط المفاهيم، ويحدّد كيف نفهم الواقع. حين يُدولر الاقتصاد، يُدولر الفكر أيضًا.
وتُستبدل السيادة الرمزية بخوارزمية نقدية تضبط السلوك، وتقسّم المجتمع، وتقرّر أيّ المشاريع قابلة للتحقيق. إنّ دلالة التبعية تمرّ من هنا.
في الحرب المعرفية العالمية، الدولار هو أداة ابتزاز: يكافئ الخضوع، ويعاقب التمرّد. عندما تحاول دولة الإفلات من قبضة صندوق النقد الدولي أو تطرح سياسة سيادية، في الطاقة أو الغذاء أو المال، تظهر “الركضة نحو الدولار”، وهروب رؤوس الأموال، والتخفيض المتعمّد للعملة.
لكن هذه ليست مجرد تقنيات اقتصادية، بل عروض دلالية تهدف إلى تثبيط العزائم، وترسيخ فكرة “لا بديل”. وهكذا يتحوّل الدولار إلى قانون العقوبات الرأسمالي: يحكم على الشعوب بالرفوف الفارغة، والمستشفيات المفلسة، والمنازل المُثقلة بالديون، ويُشرعن ذلك بتواطؤ نخبٍ تؤدي دور الببغاوات للإمبراطورية.
لا يكفي أن نُدين قدسية الدولار كسلاح ورمز، أو أن نفضح عنفها ولغتها الحربية. لا يكفي أن ننتقدها كعملة فحسب، بل كأداة أيديولوجية كذلك.
لن تكون هناك حرية ممكنة من دون مواجهة الدولار بوصفه علامة حرب. خلف بريقه هناك جثث، وخلف هيبته جوع، وخلف استقراره ظلم. فضحه ضرورة أخلاقية، وتفكيك دلالاته شرط لتحدّي سرديات تربط التقدّم بالرأسمال المالي، و”الحداثة” بالاستهلاك المفرط، و”الحرية” بالخضوع النقدي.
الحرب هي أيضًا حرب دلالات. وكل شعار، وكل كتاب، وكل درس، وكل جدارية، وكل برنامج حر، وكل عملة شعبية، وكل تجربة في الاقتصاد التضامني، وكل وسيلة إعلامية مجتمعية، هي خندق في هذه الحرب.
إنها معركة من أجل قلب منطق إنتاج المعنى نفسه، من أجل تحرير الممارسات الدلالية، واستعادة سيادة اللغة والتاريخ والخيال. هناك، حيث أراد الدولار أن يكون نهاية العالم، فلنُطلق العنان لعوالم ممكنة جديدة.
فرناندو بوين أباد
أستاذ جامعي مكسيكي، متخصّص في فلسفة الصّورة وفلسفة الاتصال ونقد الثّقافة وعلم الجمال والسّيميائيّة..
