منذ اندلاع الصراع الدموي في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع، يسود صمت مطبق من قبل جماعات الإسلام السياسي، وعلى رأسها التيار الإخواني، رغم فداحة المأساة الإنسانية التي خلفت مئات الآلاف من القتلى والمشردين. هذا الصمت يثير تساؤلات عميقة حول طبيعة المواقف الأخلاقية والسياسية لهذه التيارات، وحول معاييرها المزدوجة في التعاطي مع الأزمات الإقليمية.
يبدو واضحاً أن أحد الأسباب الجوهرية وراء غياب التفاعل الإخواني مع ما يجري في السودان هو انعدام البعد الطائفي أو المذهبي في الصراع. فالطرفان المتحاربان ينتميان إلى المذهب السني ذاته، ما يجعل من الصعب توظيف الحرب في إطار “الضحية والمعتدي” الذي تتقنه ماكينة الإسلام السياسي في خطابها الدعائي المعتاد. فحين تنتفي ثنائية “الظالم المختلف مذهبيا”، يتبخر الحماس التعبوي الذي اعتادوا استخدامه في سوريا أو العراق أو غزة.
العامل الثاني يرتبط بطبيعة الصراع نفسه، إذ يُعدّ السودان ساحة تنافس خليجية خفية بين أطراف داعمة للطرفين. ولأن التنظيمات الإخوانية تعتمد في تمويلها وتحركاتها على شبكات مرتبطة بدول بعينها داخل هذا المشهد، فقد فضّلت التزام الحياد المريب، خشية خسارة أحد الداعمين. فـ”الحياد” هنا ليس موقفاً أخلاقياً بل تكتيك بقاء داخل خريطة التمويل والتحالفات الإقليمية.
تُدرك هذه الجماعات جيدا أن ماكينة الإعلام الغربي التي تحدد في كثير من الأحيان جدول القضايا الإنسانية “القابلة للتضامن”، لم تمنح السودان الاهتمام ذاته الذي منحته لقضايا أخرى. ولأن الإسلام السياسي غالبا ما يتحرك في نسقٍ متماهٍ مع موجات الرأي العام العالمي حين تتلاقى مع مصالحه، فإن غياب الضوء الغربي جعل الملف السوداني غير جذّاب دعائياً بالنسبة لهم.
تكشف المأساة السودانية حدود “الإنسانية الإخوانية” التي تُمارس بانتقائية شديدة. فحيثما توجد ورقة يمكن استثمارها سياسيا أو مذهبيا، يُرفع شعار “الإنسانية”. أما حين يكون الضحايا من أبناء المذهب ذاته، في غياب الخصومة الأيديولوجية أو الإمكانية الاستثمارية، يتحول الدم إلى رقمٍ باردٍ في نشرات الأخبار.
إن هذا الصمت ليس موقفا عارضا، بل ينسجم مع وظيفة أعمق أدّتها هذه الجماعات تاريخيا؛ تقويض مفهوم الدولة الوطنية لصالح مشاريع عابرة للحدود. فحين تُضرب الدول وتنهار مؤسساتها، تجد هذه التيارات في الفوضى بيئة خصبة لإعادة إنتاج نفسها تحت شعارات “العدالة” و“التمكين”. من هنا، ليس غريباً أن يُنظر إلى السكوت عن مأساة السودان كجزء من استراتيجية صامتة لإضعاف ما تبقى من الدولة الوطنية عبر تركها تنزف دون ضغط شعبي أو تضامن إنساني حقيقي.
مأساة السودان تكشف هشاشة الخطاب الأخلاقي لتيارات الإسلام السياسي، وتفضح تسييسها الانتقائي للقيم الإنسانية. فحيثما تتقاطع الدماء مع الحسابات المذهبية والمصلحية، تُرفع الشعارات. وحيثما يغيب الاستثمار السياسي، يُدفن الرؤوس في الرمل.
ما يجري في السودان ليس فقط مأساة وطن، إنما مرآة تعكس زيف الإنسانية المؤدلجة التي تتاجر بالألم حين يخدم مشروعها، وتصمت حين يهدد مصالحها.
