عماد العتابي
لم يكن مشهد ناصر الزفزافي وهو يخاطب الآلاف من المعزين من سطح بيت العائلة في الحسيمة مشهدا عاديا. لقد بدا وكأنه لحظة سياسية بامتياز، تفوق في رمزيتها حدود الفقد الإنساني إلى أفق أوسع: أفق المصالحة الممكنة بين الدولة وأبناء الريف.
في كلمته، لم يتحدث الزفزافي بلهجة التحدي أو الغضب كما اعتاد خصومه أن يتصوروه، بل اختار نبرة شكر وامتنان. شكر الدولة، ممثلة في إدارة السجون، على تسهيل حضوره جنازة والده. أكد على وحدة الوطن من الصحراء إلى الشمال، ونفى أي نزعة انفصالية نُسبت إلى الحراك. والأهم، أنه دعا إلى النظام والاحترام في وداع والده، وكأنه يرسل رسالة سياسية ضمنية: “لا قطيعة مع الدولة، بل استعداد للعبور نحو صفحة جديدة”.
هذه الكلمات، في سياقها، يمكن قراءتها كبداية رسائل متبادلة بين الدولة والزفزافي. الدولة سمحت له بالمشاركة في جنازة والده، في خطوة إنسانية تحمل أبعادا سياسية لا تخطئها العين. والزفزافي ردّ برسالة وطنية مسؤولة، تفتح الباب أمام إمكانية إعادة بناء الثقة.
في عمق هذه اللحظة، يلوح سؤال أكبر؛ هل هي بداية استعداد الدولة لفتح صفحة جديدة مع الريف؟ المؤشرات كثيرة. فقد أصبح واضحا أن الدولة تريد الخروج من منطق المواجهة إلى منطق الاحتواء، خاصة وأن ملف الريف لم يعد محصورا داخل الحدود. هناك اليوم مئات من أبناء المنطقة موزعين في أوروبا، يعيشون في منفى اختياري أو اضطراري، بعد أن حملتهم رياح الهجرة واللجوء السياسي. هؤلاء يشكّلون جرحا آخر في جسد المنطقة، وعبئًا على صورة البلاد في الخارج.
الانفراج في الداخل قد يكون خطوة أولى، لكن لن يكتمل إلا بفتح باب العودة أمام هؤلاء المنفيين. طي صفحة الريف لا يمر فقط عبر السجون المغربية، بل أيضا عبر العواصم الأوروبية التي تستضيف شبابا يحنّون إلى أرضهم، ويشعرون بأنهم عالقون بين انتماء مكسور ومستقبل ضبابي.
إنّ أي مصالحة حقيقية لا بد أن تعانق الداخل والخارج معا؛ الداخل عبر إطلاق سراح المعتقلين، والخارج عبر تسهيل عودة المئات من أبناء الريف إلى حضن الوطن من دون خوف أو ملاحقات. هذه لحظة تاريخية لتجسيد المصالحة على نطاق شامل، يتجاوز الحسابات الأمنية إلى مصالحة حقيقية.
العديد من المراقبين اعتبروا أن هذه اللحظة قد تكون “الانعطافة الأخيرة” نحو طيّ ملف حراك الريف. بعضهم استحضر سابقة العفو الملكي عن معتقلين سياسيين في مناسبات كثيرة، فيما يرى آخرون أن الكلمة الهادئة للزفزافي وضعت الكرة في ملعب الدولة.
لكن، لا ينبغي أن نغفل أن الطريق نحو الانفراج ليس مضمونا بعد. فما زال الملف يثقل الذاكرة الجماعية، وما زالت الجراح مفتوحة لدى عائلات المعتقلين والمنفيين على حد سواء. غير أن ما جرى في الحسيمة يوحي بأن الطرفين، الدولة والحراك، صارا على بعد خطوة واحدة من تسوية تاريخية قد تُخرج الريف من دائرة التوتر الدائم.
إنها لحظة اختبار، هل تلتقط الدولة الإشارة وتترجمها إلى عفو شامل يطوي الصفحة؟ أم تبقى المبادرة معلقة في الفراغ؟ المؤكد أن جنازة أحمد الزفزافي لم تكن مجرد وداع لوالد رمز الحراك، بل ربما بداية لوداع سنوات من الجفاء، وفتح صفحة جديدة من الانفراج الوطني، تشمل السجون كما تشمل المنافي.
