عماد العتابي
الحكم الأخير الصادر عن المحكمة الزجرية بالدار البيضاء في حق الناشطة الحقوقية والمدونة سعيدة العلمي، بالسجن ثلاث سنوات نافذة وغرامة مالية قدرها 20 ألف درهم، ليس مجرد واقعة قضائية عابرة، بل هو تجسيد صريح لمنطق المخزن في التعاطي مع الكلمة الحرة. فالتهم الموجهة إليها من “إهانة هيئات منظمة قانونا” إلى “نشر وقائع كاذبة بهدف التشهير”، تعكس بجلاء كيف تُستعمل نصوص فضفاضة لإسكات الأصوات المعارضة، وتحويل النقد السياسي والاجتماعي إلى جريمة جنائية.
إن ما يثير الانتباه في هذه القضية ليس فقط قسوة العقوبة، وإنما الرسالة السياسية التي تحملها، فكل من يتجرأ على تجاوز الحدود المرسومة من طرف الدولة، أو يفضح تواطؤاتها، سيكون مصيره المحاكمة والتشهير والتضييق. إنها سياسة “العبرة بالآخرين”، حيث يُقدَّم المناضل أو الصحافي أو المدون قربانا على مذبح الردع، ليعمّ الخوف في النفوس ويُقمع ما تبقى من دينامية مجتمعية حية.
في دفاعها أمام المحكمة، شددت سعيدة العلمي على أن نشاطها الحقوقي ليس خيارا شخصيا بل التزاما أخلاقياً من أجل الأجيال القادمة. وهنا تكمن المفارقة. المواطنة التي تحلم بمغرب الحرية والكرامة تُجرَّم باسم القانون، بينما تُترك شبكات الفساد والريع والإفلات من العقاب دون مساءلة حقيقية. أي رسالة أقوى من هذه على أن الدولة لا تحتمل النقد، حتى وإن كان في مصلحة المجتمع والديمقراطية؟
إن المخزن اليوم يواجه مأزقا عميقا، فمن جهة يرفع شعارات “دولة الحق والقانون” و”الإصلاحات الكبرى” و”النموذج التنموي الجديد”، ومن جهة أخرى يوظف القضاء كأداة سياسية لتأديب الأصوات المزعجة. هذا التناقض لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية، لأنه يقوّض الثقة في المؤسسات ويجعل من العدالة مجرد واجهة لتكريس الاستبداد. بل إن تغوّل الدولة على الفضاء الرقمي والإعلامي يكشف أنها لا تراهن على الإقناع أو النقاش العمومي، بل على إخضاع الجميع عبر الخوف والرقابة.
هذه المقاربة الأمنية/القضائية في التعامل مع الرأي المختلف ليست علامة قوة، بل علامة ضعف بنيوي. لأن الدولة الواثقة من نفسها لا تخشى النقد، ولا تلاحق مواطنيها بسبب تدوينات، ولا تجعل من المحاكم مكانا لتصفية الحسابات مع النشطاء والصحفيين والمعارضين. على العكس، الدول التي تسعى فعلا إلى الاستقرار تدرك أن حرية التعبير صمام أمان ضد الانفجار الاجتماعي، وأن إقصاء الأصوات النقدية لا يؤدي إلا إلى تراكم الاحتقان وتحويله إلى قنابل مؤجلة.
بهذه السياسة، لا يبني المخزن دولة قوية، بل يعيد إنتاج هشاشة سياسية تُفاقم فقدان الثقة وتدفع الجيل الحالي والأجيال اللاحقة إلى الاغتراب واليأس أو الانفجار. والنتيجة مغرب بلا أفق، محكوم بمنطق الطاعة والإذعان، بعيد عن حلم الديمقراطية والكرامة الذي ضحى من أجله كثيرون.
لقد آن الأوان أن نطرح السؤال بوضوح؛ أي مغرب نريد أن نتركه لأبنائنا؟ هل هو مغرب تُختزل فيه المواطنة في واجب الصمت، أم مغرب يحترم الإنسان ويصون كرامته وحقه في النقد والمساءلة؟ الجواب لن يُعطيه المخزن، بل سيصنعه الشعب المغربي حين يرفض الخوف ويتمسك بحقه في الحرية. لأن الحرية، مهما حوصرت، تظل الحقيقة التي تقض مضجع الاستبداد، وتظل الأفق الوحيد لبناء وطن يستحق أن نحلم به.
