نارام سرجون
لم تُنتج استوديهات السياسة الغربية فيلمًا هوليووديًّا أو تمثيلية بمستوى مسرحية الجولاني المُشوّقة. الفيلم يقول إنه كان إرهابيًّا على دراجة نارية، يتنقّل بين القبائل والمداجن، وتلاحقه طائرات الناتو وروسيا. ولكنه نجح في البقاء على قيد الحياة، لا بل وصل إلى نيويورك واستُقبل استقبال الأبطال. حتى مخرجو أفلام هوليوود نظروا باستغراب إلى القصة ورفضوا إخراجها لشدّة خياليّتها. حتى فانتازيا الأفلام تحتاج شيئًا مقنعًا.
طبعًا، استقبال الجولاني المُعد بعناية فائقة في نيويورك كان متعمّدًا، لأنه جزء من عملية التسويق وبيع المنتج الأمريكي. المنتج الذي سُمّي (الجولاني) ليس للبيع في أميركا، لكنه بيع للسوق الإسلامية والعربية. وكما في كل عملية تسويق لأي منتج، يعمل الأميركيون على عملية ترويج وحفلة علاقات عامّة وحفلات تعارف وشاي وهدايا. ويأتون ببعض الممثلين الذين يتحدثون عن المنتج بحيادية، ومن أنه غيّر حياتهم. وفي النهاية لا يهم الأميركي أن يستفيد من يستهلك المنتج أو أن يموت به؛ المهم أن يُباع المنتج ويحقّق الأرباح.
وهذا الإرهابي سيعطيهم ما لم يحلموا به، سيعطيهم إيّاه الجولاني، وسيكافأ بالصور التذكارية والمصافحات. وسيخاطبه الجميع أمام العالم العربي والإسلامي بـ (سيدي الرئيس).
وأجمل لقطة في عملية الترويج هي أن معلّمه ديفيد بترايوس جلس بجانبه وخاطبه بكلمة (سيدي الرئيس). فطار صواب العرب والمسلمين. رغم أن بترايوس هو مُصمّم هذا المنتج عندما كان في العراق. وهو صاحب فكرة الصحوات العراقية لمواجهة المقاومين العراقيين الذين كانت تمدّهم سورية وإيران بكل شيء.
وهو من هندس تنظيم داعش. وهو من هندس رحلة القاعدة إلى سورية. وهو مهندس ومعلّم البغدادي والجولاني. والمثير للسخرية والإعجاب فعلًا أن المعلّم المتواضع جلس أمام تلميذه بخبث وخاطبه بـ (سيدي الرئيس) كي يستمر مسلسل الخداع للسُّذج والأغبياء.
هذه عملية بيع لمنتج يريد الأميركيون بيعه للجمهور العربي والإسلامي العاطفي. جمهور سيضحك عليه الأميركيون وهم يعرفون أنه جمهور عاطفي، ساذج، طيّب، ويصدّق ما يراه وما يسمعه. ولا يُحلّل سبب هذا الترحيب بشخص يُفترض أنه عدو أميركا الجهادي الإسلامي الذي قتل الجنود الأميركيين كما يزعمون، وجاء من تنظيم قاد الطائرات وفجّر أبراج نيويورك. واليوم يحضرون له المطارف والحشايا والاحتفالات والكرنفالات.
أجمل الكرنفالات التسويقية هي تلك المسرحية عن تجمع للأمريكيين السوريين الذين قدّموا عرضًا مبهرا تمثيليًا أُعدّ بدقّة متناهية. جمعهم اليهود الأميركيون، وأعطوهم المغريات والعقود للتصفيق والتهليل. رغم أنهم، بالمنطق، كانوا يوجّهون إهانة لأنفسهم. فلا يجب لنخب عربية أمريكية أن تهلّل لشخص ارتكب مجازر بحق الناس، لأنهم بذلك يباركون مجازره. وهو إرهابي دولي.
وهنا يجب أن نتذكر أن هذه الاحتفاليات وهذا التهليل لا يُعطى إلا لمن يبيع وطنه بثمن بخس. وهو ما قاله الرئيس عبد الناصر للمصريين عندما نصحهم أن يراقبوا الخطاب الأمريكي تجاهه. فإذا امتدح الخطاب الأمريكي عبد الناصر، فلأن عبد الناصر يعمل في صالح أمريكا وليس مصر. وإذا هاجمه، فلأنه يعمل لصالح مصر وليس لصالح أميركا. وما رأيناه في معاملة أميركا للسادات، الذي قدّم أكبر ثمن للأمريكان بإخراج أكبر بلد عربي من المواجهة مع الغرب، يدل على ذلك. فقد كافأه الغرب بإسباغ البطولات عليه، وأعطاه جائزة نوبل، وكان يتحدث عنه كمُحرّك من محرّكات التاريخ النفاثة.
هذه الحفاوات والاستقبالات هي احتفالات إسرائيلية بأن العرب والمسلمين قد تنازلوا عن القدس والأقصى وفلسطين والجولان.
وإذا كان حافظ الأسد مُصرًّا على أن يغسل قدميه في بحيرة طبرية، فإن نتنياهو اليوم سيغسل رجليه في مياه الفرات. وسيستحم في شلالات تل شهاب. وسيسقي المستوطنات من مياه عين الفيجة التي سيبيعها للدماشقة عبر الشركات الإسرائيلية التي تدخل كل شيء في سورية. وسيطرد العلويين إلى الساحل، وسيُعيد اليهود إلى دمشق.
أصحاب الجولاني ومُحبّوه لا يعرفون ماذا تجني أيديهم. فالسويداء اليوم بدأت بالانضمام إلى إسرائيل. والأخبار هناك تقول إن باصات النقل الداخلي صارت تنظّم رحلات بين السويداء وتل أبيب. والمخطّط الإسرائيلي صار واضحًا: الاستيلاء على كل المسطحات المائية في الجنوب السوري، وكل الينابيع والبحيرات، لتخديم مشاريع توسيع المستوطنات في الشمال والتمدّد ضمن الأراضي السورية. ولذلك يجب أن يُطرد السكان من حول المسطحات المائية لتوفيرها لليهود الجُّدُد.
وستقوم لذلك بطرد كل السُّنة العرب من المنطقة، لأنها تريد حزامًا درزيًا حولها شمالًا. وهي التي نظّمت مجزرة السويداء مع الجولاني، وتركت السويداء مُباحة ثلاثة أيام للجولاني رغم أنها كانت قادرة على إيقافه في ساعة فقط. لأنها اليوم ستهدّد الدروز إن لم يقبلوا بخدمتهم لها والعمل كحرس حدود. وإلا فإن الجولاني في الشمال، وأهل السُّنة سيعيدون المجازر في الدروز.
ولذلك ستدفع بالدروز لطرد أهل السُّنة من الجنوب، وستُسلّحهم وتقوم بعملية التغيير الديمغرافي. وستقول إنها ليست متورّطة بأي عمل عُنفي، لأن الدروز هم من يفعلون ذلك بدافع القلق والغضب والرغبة في الانتقام. وستُهدّد بالغضب الدرزي أهل السُّنة شمالًا إذا ما فكّروا أن ينظروا إلى جبل الشيخ أو إلى الجولان.
وسيجد أهل السُّنة أنهم أمام جيش سورية الجنوبي، وفيه عشرات الآلاف من حرس الحدود الدروز الذين تُحرّكهم تل أبيب. وستجعلهم يُذلّون أهل السُّنة لإبقائهم في حالة توتّر ممّن كانوا مثلهم سوريين يومًا، واليوم ألدّ أعدائهم.
أما الخدعة الكبرى فهي الوهم بأن الوضع الاقتصادي سيتحسّن، وأن العقوبات ستُرفع، وأن الاستثمارات ستعود. فهل من عاقل يصدّق أن إسرائيل تريد بجوارها شعبًا شبِعًا ومُترفًا، لديه فرص عمل وتعليم وإنتاج وعلوم وتكنولوجيا، ويتكاثر بجوارها ديموغرافيًا ليُهدّدها في قادمات الأيام؟
أم إنها تريد شعبًا فقيرًا جائعًا يلهث كالكلب من أجل لقمة عيش خشنة وذليلة، يبيع من أجلها أرضه وشرفه وعرضه ودينه؟ شعب لا يفكّر في التمرّد أو السياسة. لأن زمن الأسدين، حافظ وبشار، كان زمن الوفرة وزمن الشّبع والخدمات، قبل بدء المؤامرة الكونية عام 2011. فصنع السوريون في ذلك الزمن ترف السياسة والتلاعب بمعادلات الشرق وتهديد إسرائيل.
لذلك يجب أن يدخلوا زمن الحرمان وزمن العبودية لكل المانحين. وسيكون لهم وطن بلا ثروات ولا خدمات. وسيغادرون بلدهم لاجئين كما غادروها أيام السفربرلك. وسيتقلّص تدريجيًا عدد السكان. والدليل أن لا أحد من “الثوار” في أوروبا يعود. بل يذهبون ليُقبّلوا تراب مطار دمشق، ويلتقطوا الصور في ساحة الأمويين، ثم يعودون إلى حياتهم الأوروبية. في الحقيقة يعودون هاربين من جحيم البلد الذي صنعوه حرًّا بثورتهم. إلى أن تفرغ البلاد خلال سنوات قليلة من الكفاءات والخبرات والأموال والجيوش. ويصبح الباقون فيها عمّال سخرة لإسرائيل. فيدخل اليهود آمنين إلى خراب دمشق، التي ستصبح وفق النبوءات التوراتية ردمًا. ردمًا صنعه من يُصفّقون اليوم لمن باعهم ويصفونه بأنه من أعزّهم.
المُنتج الجولاني هو أهم مُنتج لأهم عملية خداع في التاريخ. سيحكي عنها التاريخ العبقري للمخابرات الغربية. ولكن أهم من المنتج هو الغباء الذي أنتجته عملية التلاعب بعقول السوريين، الذين كان لهم وطن، فصار لديهم لا شيء سوى الحلم والوهم. وصار كل همّهم أن يكون رئيسهم سُنّيًا حتى وإن باع بلدهم.
والغباء الشامل هو الذي أنتج نُخب الأغبياء الذين يصفّقون للمنتج التافه السّام، ويهلّلون له، ويرقصون معه، وهم لا يعرفون أنهم يصنعون منتجًا كالسُّم الزُّعاف، مستخلصًا من أنياب الأفاعي المخابراتية. سيتجرّعون السُّم وهم فرِحون، وسيثملون بنكهة السُّم الأموي الذي يقتلهم بصمت.
المهم أن نتنياهو يستحق أن نقف ونصفّق له، رغم أنه مجرم وسفاح وقاتل. لكنه صانع معجزات تجعل العقل العربي يقبل إرهابيًا جاهلًا بلا شهادة يقود الأمّة. وتجعل الأمّة تُفوّضه بأن يبيع ترابها ومياهها وشرفها وكرامتها، ومسجدها الأقصى وفلسطينها. ويبيع مئة ألف شهيد في غزة بقشرة بصلة. سحقهم نتنياهو تحت حذائه ولم يلتفت إلى غضب الإسلام والدّين والعرب.
وبعد ذلك يصفّق المعتوهون والتُّجار لهذا الصبي المعتوه الذي لا يعرف حتى كيف يقرأ القرآن. يصفّقون له على بيعه لكل شيء، وإدخال اليهود إلى قلب الشام، وتمزيق بلدهم، وتحويلها إلى أكبر بلد فاشل في العالم. ويقولون له: (الله يعزّك كما عزّيتنا). رغم أنها تمثيلية فاقعة، لكن صمت الناس هو الفاجعة. وهو العار، العار الذي سيلحق بالجميع.
ولا تتفوّق على ابتسامة الجولاني البلهاء إلا ضحكة نتنياهو، الذي كان أيضًا على صواب من أن دمشق كُسرت. وهو يحقّق رؤية الأسفار اليهودية بخراب دمشق.
يراقب الرئيس المغيّب بشار الأسد ما يحدث بصمت، ويُدرك أنه أثبت للجميع أنه كان على صواب، كصواب الأنبياء عندما يرحلون ويتركون الضّالين يأكلهم الضّالون والضلال.
