سعيد بودوفت
هكذا يمكن وصف السياسة الغذائية لفرنسا في المغرب. كان نظام فيشي يريد تعويض نقص الغذاء في فرنسا من خلال زيادة استيراد المواد الغذائية من شمال إفريقيا المُحتلة. وقد فُرضت على هذه البلدان تضحيات كبيرة من أجل الحرب وعواقبها.
كانت فرنسا، التي كانت تُقدّم نفسها ظاهريا كحامية للمغرب، تُرجع المجاعة إلى الجفاف. لكن ذلك كان كذبا. فالمجاعة التي امتدت من عام 1940 إلى 1947 لم تكن بسبب الجفاف، بل زادها الجفاف في عامي 1944/1945 سوءا. إذ كانت محاصيل القمح في السنوات من 1939 إلى 1943 وفيرة جدا، وسُجلت مستويات قياسية من الأمطار في تلك الفترة. هذه هي خلاصة ما توصل إليه المؤرخان المغربي بوجمعة راويان والفرنسي دانييل ريفيه. وقد سُمي عام 1941 في المغرب بـ “عام الجرذ” (Äm-el-far) بسبب اجتياح الجرذان الناتج عن وفرة القمح: الجرذان والفرنسيون وجدوا ما يأكلون، أما المغاربة فلا.
نشرت جريدة Limburger Koerier الهولندية بتاريخ 15 سبتمبر 1941 مقالًا عن محاصيل الحبوب في شمال إفريقيا، جاء فيه:
“أما عام 1941 فقد شهد محصولا وفيرا يفوق المتوسط. مما أتاح إمكانية تصدير كميات كبيرة من القمح إلى فرنسا، وبالتالي الإسهام بشكل فعال في حل مشكلة الغذاء في أوروبا كلها.”
لم يكن الجفاف إذًا هو السبب، بل الحكومة الفرنسية التي نهبت مخزون الغذاء المغربي.
في صيف عام 1940، فُرض نظام تقنين للغذاء والملابس في المغرب، ولم يكن بمقدور الناس شراء شيء إلا عن طريق بطاقات التموين. وكانت هذه البطاقات تُحدد بدقة ما يمكن شراؤه. وكان هناك تمييز واضح بين الفرنسيين والمغاربة في الكميات والأنواع المتاحة من المواد الأساسية. شملت المواد الأساسية 14 مكونا. الفرنسيون المقيمون في المغرب كان بإمكانهم الحصول على جميع هذه المكونات، في حين لم يكن يُتاح للمغاربة سوى خمسة فقط، وبكميات محدودة. يقول أحد المصادر (Un bon pour la misère, Zamane, 8-3-2018):
“إذا كنت تمتلك بطاقة تموين، فكان بإمكانك أن تشتري الدقيق، والشاي، والزيت، والسكر. الفرنسيون كانوا خاضعين للقيود أيضا، لكن قائمة المواد المتاحة لهم كانت أوسع، وكان بإمكانهم حتى الحصول على الشوكولاتة.”
كما كان هناك تفاوت بين المناطق: سكان المدن كانوا يحصلون على طعام أكثر من سكان القرى. ويرى المؤرخ أحمد أصريفي أن هذا التمييز مردّه إلى مقاومة سكان الريف الشديدة للاستعمار الفرنسي.
بعد عام 1940، تفاقمت الأزمة. وفي عامي 1944 و1945، جاء الجفاف وتسبب في فشل المحاصيل. وتراجعت الإنتاجية الزراعية في عام 1945 إلى أكثر من نصف ما كانت عليه في 1939. وكانت النتائج كارثية. وما زاد الطين بلّة أن سلطات الحماية الفرنسية اتخذت تدابير فاقمت الوضع، فكلما ازدادت حدة المجاعة، كلما تم تشديد القيود على التموين.
كتبت صحيفة De Waarheid الهولندية (لسياق الجيل الجديد، هذه الصحيفة كانت ناطقة باسم الحزب الشيوعي الهولندي، والذي اندمج لاحقا في حزب “غروين لينكس”) في عددها بتاريخ 13 ديسمبر 1945:
“الغالبية العظمى من السكان الأصليين لا يحصلون حتى على بطاقات التموين.”
نفدت المواد الغذائية المعتادة، وبدأ الناس يبحثون عن بدائل: أصبح لحم الخنزير البري يُذبح بطريقة طقسية وأصبح من الأطعمة المفضلة. كل ما يمكن أكله أصبح يؤكل: الجراد، القنافذ، اللقالق. حتى الكلاب والسلاحف لم تسلم. وتم تعليق المقولات الدينية مثل “الذئب حلال، الذئب حرام، إذن من الأفضل تركه” مؤقتا.
كما بدأ الناس باستخدام أنواع مختلفة من النباتات كبدائل للسبانخ، وتجفيف وطحن جذور النباتات لاستخدامها كطحين لصناعة الخبز. وفي بعض المناطق الريفية، استخدم الناس لبّ أكوام السماد كدقيق للخبز!
الهجرة، الأمراض، والموت
الكاتب المغربي محمد شكري كتب مطولا عن المجاعة التي أصابت عائلته. وقد أُعيد إصدار ترجمة كتابه “سنوات الجوع” عن طريق دار النشر “يورغن ماس”. يمكن لمن يريد معرفة المزيد العودة إلى هذا الكتاب.
وصف شكري يُجسد بدقة الوضع في المناطق الريفية، حيث كان الناس يسمعون أن الطعام متوفر في المدن، فهاجر الآلاف من سكان القرى إلى المدن بحثا عن شيء يسد رمقهم.
كان للمجاعة عواقب وخيمة على الصحة العامة. بسبب نقص المياه والصابون، كانت الظروف الصحية مزرية للغاية. وقد سحبت فرنسا أكثر من 50٪ من أطبائها وممرضيها من المغرب لإرسالهم إلى جبهات الحرب في أوروبا. كان هناك نقص في الأدوية والمضادات الحيوية. واندلعت أوبئة مثل الطاعون، التيفوس، الجدري، السل، والحصبة، وانتشرت الحمى. وكانت نسبة الوفيات مرتفعة جدًا، خصوصًا بين الأطفال.
تشير الإحصائيات الفرنسية إلى أن حوالي 300 ألف مغربي ماتوا بسبب المجاعة في عامي 1944 و1945. لكن هذا الرقم يُعد أقل من الحقيقة (ربما عن قصد). فالمغاربة، سواء كانوا مسلمين (وهم الأغلبية الساحقة) أو يهودا، كانوا يدفنون موتاهم مباشرة ولم يكن لديهم اهتمام بإبلاغ الإحصائي الفرنسي. كما أن سلطات الحماية كانت تُحاول التقليل من حجم الكارثة عمدا.
لقد ساهمت الحرب العالمية الثانية، والمجاعة، وكل ما ترتب عليهما من معاناة، في دفع حركة التحرر الوطني في المغرب إلى الأمام بقوة.
….
حول هذا الموضوع سيأتي المزيد في كتاب: “نضال القبائل المغربية ضد الاستعمار الأوروبي” الذي سيصدر العام المقبل.
سعيد بودوفت : باحث ريفي/هولندي في التاريخ
