منذ انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، ساد اعتقاد واسع بأن العالم قد دخل مرحلة جديدة عنوانها نهاية الحروب الكبرى وصعود نظام دولي أكثر استقرارًا. غير أن الأحداث الجيوسياسية الراهنة تكشف عن اتجاه مغاير، حيث تتكثف المؤشرات على تصاعد التوترات بين القوى العظمى، في صورة تعيد إلى الأذهان ملامح الفترات السابقة للحربين العالميتين الأولى والثانية، مع فارق جوهري هو أن أدوات الصراع المعاصرة أشد فتكًا وأكثر قدرة على إحداث تحولات جذرية.
في الولايات المتحدة، أصدر الرئيس دونالد ترامب أمرًا تنفيذيًا يسمح باستخدام تسمية “وزارة الحرب” إلى جانب الاسم الرسمي “وزارة الدفاع”. وعلى الرغم من أن هذا التغيير لم يحظَ بعد بغطاء تشريعي من الكونغرس، فإن دلالته الرمزية تتجاوز البعد اللغوي، إذ تمثل إشارة إلى تحول في الخطاب الرسمي الأميركي من منطق “الدفاع” إلى منطق “الهجوم” و”المواجهة” الصريحة. هذا التغيير في المصطلحات لا يمكن فصله عن السياق الدولي الأوسع، حيث تسعى واشنطن إلى تعزيز مكانتها في مواجهة ما تعتبره تهديدًا متناميًا من الصين وروسيا.
في المقابل، قدمت الصين عرضًا عسكريا وُصف بأنه الأكبر في تاريخها الحديث. تضمن العرض الكشف عن قدرات إستراتيجية غير مسبوقة، منها صواريخ عابرة للقارات بمديات تتجاوز 15 ألف كيلومتر، وغواصات مسيرة تعتمد على أنظمة الذكاء الاصطناعي، وأسلحة ليزرية قادرة على تهديد الأقمار الصناعية. هذا الاستعراض لا يمكن اعتباره مجرد احتفال داخلي، بل هو رسالة موجهة إلى المجتمع الدولي تفيد بأن بكين باتت قادرة على تأمين توازن ردع شامل، وأنها لم تعد قوة إقليمية صاعدة فحسب، بل منافسًا مباشرًا للولايات المتحدة على قمة النظام الدولي.
أما في أوروبا، فقد أصدرت وزارة الصحة الفرنسية تعليمات إلى المستشفيات بضرورة الاستعداد لاحتمال استقبال ما بين عشرة آلاف وخمسين ألف جندي جريح بحلول مارس 2026. وعلى الرغم من أن هذه الخطوة وُصفت بأنها إجراء وقائي ضمن خطط الطوارئ، فإنها تكشف عن قناعة متزايدة لدى النخب السياسية والعسكرية الأوروبية بأن القارة قد تكون مقبلة على مواجهة عسكرية واسعة النطاق، سواء نتيجة استمرار الحرب الروسية الأوكرانية أو بسبب امتدادها إلى دول أخرى.
إن تحليل هذه المؤشرات الثلاثة معًا يكشف عن صورة مركبة؛ الولايات المتحدة تعيد صياغة خطابها الدفاعي برمزية الحرب، الصين تعرض قدرات عسكرية متطورة تعكس انتقالها إلى مرحلة الردع الإستراتيجي الشامل، وفرنسا ــ ومن ورائها أوروبا ــ تستعد لاحتمال صراع قد يخلخل التوازن القائم منذ عقود. هذه الصورة، وإن لم تعنِ بالضرورة اقتراب اندلاع حرب عالمية ثالثة، فإنها تشير بوضوح إلى تسارع في سباق التسلح وتراجع في أولوية الحلول الدبلوماسية.
التجربة التاريخية تبيّن أن الحروب العالمية السابقة لم تكن دائمًا نتيجة قرار مدروس ومباشر، بل غالبًا ما اندلعت بسبب تراكم الأزمات والتقديرات الخاطئة وسوء الفهم بين القوى الكبرى. وإذا كانت الحرب العالمية الأولى قد اندلعت نتيجة حادثة اغتيال في سراييفو عام 1914، فإن الشرارة المقبلة قد تكون أقل أهمية من الناحية الظاهرية، لكنها أشد خطورة بسبب طبيعة الأسلحة الحديثة، من الصواريخ النووية بعيدة المدى إلى أنظمة الذكاء الاصطناعي العسكرية.
بناءً على ذلك، يمكن القول إن العالم يعيش لحظة انتقالية دقيقة، يتسم فيها التوازن الدولي بالهشاشة وقابلية الانزلاق نحو صدام غير محسوب. قد يكون الهدف الأساسي لهذه التحركات هو الردع وتفادي الحرب، غير أن التاريخ يثبت أن مسارات التصعيد تحمل في طياتها دائمًا إمكانية فقدان السيطرة. ومن ثم، فإن التحدي الأكبر أمام المجتمع الدولي لا يكمن فقط في إدارة التنافس بين القوى الكبرى، بل في منع تحوله إلى مواجهة مباشرة قد تكون الأكثر تدميرًا في تاريخ البشرية.
