تاشفين الأندلسي
قطاع الصحة في المغرب من أكثر القطاعات التي تم تخريبها بطريقة إجرامية متعمدة قامت بها الدولة المخزنية. الأمر هنا لا يعدو أن يكون مسألة خوصصة قطاع حيوي يمس مجتمع أغلبيته الساحقة فقيرة أو تحت عتبة الفقر، بل إقصاء متعمد وجذري لأوسع قطاع من الشعب وحرمانه من أدنى الخدمات الصحية.
بعد سنة 2011، انقلبت نسبة الأطباء العاملين في القطاع العام لصالح نسبة أطباء القطاع الخاص، في تجل واضح لتدهور الصحة العمومية لصالح مافيات لا توجد نظيرتها في كل القطاعات الأخرى، تقتات على بؤس أوسع الجماهير، ومافيات فاقت جرائمها المدى البعيد ولها لوبيات قوية تجاوزت مافيات المخدرات بكثير.
الفاتورات لا تخضع لأي معايير بتاتًا، وتُقدم للصناديق العمومية للضمان الاجتماعي، وهي إدارات عمومية، بفارق فلكي بين ما يسمونه التعريفة الوطنية الموحدة وبين هذه الفاتورات المستخلصة من المصحات والمستشفيات الخاصة، من دون تحريك أي دعاوى قضائية لما تتضمنه من جرائم مالية واضحة. تكتفي هذه الصناديق بتقييمها الخاص حسب التعريفة الوطنية الموحدة، في حين أن التعريفة التي تصدرها وزارة الصحة للخدمات الطبية لا علاقة لها بهذه التعريفة، وكأننا في دولتين. وهكذا يظهر الشرخ العظيم والفلكي في فاتورة الأداء وبين مبلغ التعويض عن المرض أمام تواطؤ صناديق الضمان الاجتماعي، كأن الأمر لا يعنيها.
هذا بالنسبة للمصرحين بالصناديق، وهي نسبة لا تتعدى 20% من الشعب المغربي، بمعنى أن الأغلبية خارجة أصلاً من هذا التأمين. أمام هذه الفوارق المهولة، تظهر فوارق أخرى تؤدي إلى إفراغ المستشفيات العمومية من الأطباء وتصاعد الانقلاب بين نسبة الأطباء في القطاع العمومي لصالح القطاع الخاص.
كيف لطبيب في القطاع العام أجرته لا تتعدى 17 ألف درهم شهريًا أن يراقب نظيره في القطاع الخاص قد يصل مدخوله الشهري إلى مئات الآلاف أو مليون درهم بطريقة غير شرعية أمام تواطؤ الدولة وأجهزتها؟ الأكثر قتامة ليس هذا الانقلاب في النسب رسميًا، بل أن عدداً كبيراً من أطباء القطاع العمومي تستقطبهم المصحات والمستشفيات الخاصة بشكل غير قانوني بل مافيوزي، تاركين وظائفهم في المستشفى العمومي، كل هذا يتم في واضحة النهار أمام أجهزة الدولة، إلى درجة أصبح الفساد المريع مسألة عادية لا تثير أي أسئلة.
الفوارق المهولة بين أطباء القطاع العام ونظرائهم في القطاع الخاص لا يمكن تصورها، وبالتالي وأمام ثغرات وتواطؤات وجرائم، لا يمكن للمستشفى العمومي أن تقوم له قائمة بالمطلق.
لذلك، فلا يمكن لأي دولة تحترم نفسها أن تترك هذا العبث المستشري إلى درجة الاستفزاز والإمعان في قتل المستشفى العمومي بهذه الطريقة الإجرامية.
هؤلاء المافيات يندهشون أمام مواطن لما يستنكر غلاء فاتورة بالملايين من دون أي تبرير واقعي، مخاطبينه: “واش الصحة ديالك رخيصة؟ آش هوما لفلوس قدام صحتك؟”، هذا الخطاب يتكرر في المصحات والكلينيكات بشكل كبير يطلقه أطباء لا يعرفون ولا يفهمون أوضاع أبناء بلدهم بسبب الفوارق الطبقية المهولة، وكأنهم نزلوا لتوهم من المريخ إلى درجة أننا لا نسير بسرعتين بل نعيش بين مجتمعين وبينهما حائط سميك جدًا.
أقلية لا تفهم الأغلبية، وكأنهم ينتمون إلى عوالم مختلفة، كل هذا بتخطيط الدولة الطبقية الهمجية الخارجة عن التاريخ. أنا أعرف أنهم لن يفهموا كلامي هذا، لأنهم عندما ينطقون بالملايين لا يتمثلونها في واقع المغاربة القابعين أسفل عتبة الفقر، الذين يبلغون حسب الإحصاءات الرسمية أكثر من 21%، أما الحقيقة فهي أكثر من ذلك بكثير بعد كل هذه الحرب الطبقية الطويلة، ولا يظهر أن هناك من سيجعل لها حدًا في ظروف اختلال الموازين كلية.
المعضلة هنا ليست فقط في الطبقية بسبب السياسات الليبرالية المتوحشة، بل تضاعفت تحت ضغط هائل من الفساد والنهب والتسيب الذي لا يصنف رأسمالية من الأصل.
