تحليل سياسي/
حين سُئل الرئيس الكوبي فيدل كاسترو عام 1960 عن الإنتخابات الأمريكية، أيهما تفضل..
نكسون أم كنيدي؟ لم يتوقف عند شكليهما أو برامجهما أو خطابهما السياسي، بل أجاب بأنّه لا يمكن المفاضلة بين فردتَي الحذاء الذي ينتعله الشخص نفسه. لم يكن ذلك استخفافا بالسياسة ولا تهكمًا عابرا، بل كان تلخيصا مكثفا لطبيعة السلطة في الإمبراطوريات الحديثة.
فالسياسيون في مثل هذه المنظومات لا يصنعون الاتجاه الذي تسير فيه الدولة، بل يتحركون داخل مسار محدد مسبقًا. إنهم يتغيّرون من الخارج، بينما تبقى القوة التي تدفعهم من الداخل ثابتة لا تتبدل.
فالسلطة في النظام الرأسمالي الإمبريالي ليست امتيازا شخصيا، ولا تتعلق بمواهب القادة أو نياتهم، بل تقوم على شبكة واسعة من العلاقات الاقتصادية والمالية والإعلامية والعسكرية. هذه الشبكة هي التي تحدد ما يمكن للحاكم قوله وما يمكنه فعله، وهي التي ترسم حدود الممكن والمسموح والممنوع.
ولهذا، فإن الاختلاف بين الرؤساء يكون غالبًا اختلافًا في الأسلوب، لا اختلافًا في البنية. فحتى حين يتغير الخطاب، تبقى وظيفة الدولة ثابتة.. من حماية رأس المال، وضمان السيطرة السياسية، وإدارة النفوذ الدولي، إلى توجيه موارد العالم بأساليب مباشرة أو غير مباشرة.
ومن هنا، تصبح الانتخابات في الإمبراطوريات الحديثة وسيلة لإعادة إنتاج الشرعية أكثر من كونها أداة لتغيير المسار. يدخل المواطن إلى صندوق الاقتراع وهو يشعر بأنه يختار مصيره، بينما تكون القرارات الأساسية قد صيغت في أماكن لا يصل إليها صوته، ولا يعلم حتى بوجودها. إنها آلية متقنة لإيهام المجتمع بأنه يمسك بزمام السلطة، بينما تستمر البنية العميقة في العمل وفق مصالحها الخاصة. فالحرية هنا شكلٌ لا مضمون له، ما دامت أدوات القوة والملكية خارج يد العامة.
وعند النظر إلى صعود شخصيات مثل زهران ممداني داخل المشهد السياسي الأمريكي، يصبح من الضروري وضع هذه الظاهرة ضمن سياق التحولات الداخلية في الإمبراطورية. فظهوره ليس انتصارًا خالصًا لقضية، ولا مجرد نتاج لحراك جماهيري أو حدث خارجي، بل هو انعكاس لاحتدام التناقض بين تيارين داخل البنية نفسها، تيار ليبرالي أممي يريد الحفاظ على النظام الدولي كما هو، وتيار قومي/شعبوي يسعى إلى إعادة تشكيل الهوية الأمريكية على أسس أكثر انغلاقًا وتمايزًا عرقيا وثقافيا. فمنذ صعود الاتجاه الترامبي، بات الصراع داخل الولايات المتحدة أعمق من صراع انتخابي؛ إنه صراع على تعريف الدولة ذاتها، لمن تنتمي، ومَن يحق له تمثيلها، وما هي حدودها داخل العالم؟
في هذا السياق، يصبح ممداني ليس رمزًا لانتصار طرف على آخر، بل دليلاً على أن البنية التي كانت ملساء ومستقرة بدأت تتشقق. لقد أصبح ممكنا أن يصل شخص كهذا إلى موقع تشريعي، لا لأن المنظومة تبدّلت، بل لأن المنظومة نفسها تبحث عن أدوات جديدة لحماية توازنها، أو لأن توازنها القديم لم يعد قادرًا على العمل كما كان. وحتى إذا دخلت قوى خارجية على الخط، فإن دورها غالبًا لا يكون صناعة الحركة من الصفر، بل دفعها قليلًا في الاتجاه الذي تتجه إليه أصلا. فالإمبراطوريات تُضعف نفسها من داخلها قبل أن يضعفها أحد من خارجها.
وليس في التاريخ إمبراطورية سقطت بضربة واحدة. الإمبراطوريات تسقط حين تفقد السيطرة على تناقضاتها الداخلية، حين يصبح السير بثبات مهددا، وحين تبدأ القدم نفسها بالتردد، مهما كانت الفردتان لامعتين ومصقولتين ومصممتين بعناية. ما يعني أن الوجوه قد تتغير، لكن السؤال الحقيقي هو من يحدد الطريق الذي تسير فيه القدم؟
فما لم يتغير من يملك أدوات الإنتاج والمعرفة والقوة، فإن تغير الأسماء سيظل أشبه بتبديل النقوش على الجلد ذاته. أما التحول العميق، فهو ذلك الذي يمس البنية قبل الأشخاص، والأسس قبل الواجهات، والقدم قبل الفردتين
