عماد العتابي
الحركات الاجتماعية الشبابية في منطقتنا كثيرا ما تبدأ بلا ضفاف واضحة، بلا هوية جامعة، تستند فقط إلى شعارات عامة فضفاضة من قبيل “حرية، عدالة، كرامة”. شعارات محقة لا شك، براقة تهزّ الوجدان وتفجّر الغضب الشعبي، لكنها في الوقت نفسه تبقى عرضة للتبديد أو التوظيف إذا لم تُترجم إلى مشروع واضح وأداة تنظيمية متينة. هنا يبرز السؤال الجوهري، كيف ننتقل من العفوية إلى التنظيم؟ وكيف نحصّن الحراك من أن يُختطف أو يُستنزف أو ينقلب إلى عكس مقاصده؟
تجارب التاريخ تقدّم لنا دروسا بالغة الدلالة، خصوصا في أعمال تروتسكي ولينين. كلاهما عاش لحظات الانفجار الشعبي المباغت، وكلاهما واجه معضلة تحويل الطاقة العفوية إلى قوة منظمة.
تروتسكي، في “تاريخ الثورة الروسية”، يوضح أن الجماهير تصنع الثورات “من حيث لا تدري”، ففي لحظة الغليان الاجتماعي تدفعها إلى الساحات، تهدم جدران الخوف، وتفرض وقائع جديدة. لكنه في الوقت نفسه يحذّر من أن العفوية وحدها، مهما بلغت قوتها، عاجزة عن أن تبني بديلا أو تدير تحولا تاريخياً. الجماهير تستطيع أن تُطيح، لكنها لا تستطيع أن تحكم إذا بقيت بلا تنظيم واع. العفوية بلا جسر تنظيمي تتحول إلى طاقة مبعثرة، أو فراغ سياسي يملؤه الآخرون، وغالبا الخصوم. وما حدث مؤخرا في النيبال صورة مكثفة لأزمة العفوية.
لينين ذهب أبعد من ذلك في نقده للعفوية. في كتابه الشهير ما العمل؟ اعتبر أن العفوية، في أفضل الأحوال، لا تنتج سوى “وعي نقابي”، أي مطالب جزئية محدودة بالظرف المباشر. أما الوعي الثوري الشامل فلا يأتي إلا عبر التنظيم والقيادة. لذلك شدّد على ضرورة بناء “حزب طليعي” منضبط، يضم أكثر العناصر وعيا والتزاما، يتولى مهمة إدخال الأفكار الثورية إلى الحركة العفوية وقيادتها في مسار تاريخي واضح.
لكن التنظيم عند تروتسكي ولينين لم يكن هدفا في ذاته، بل وسيلة لحماية الثورة أو الانتفاضة من الضياع أو السرقة. تروتسكي كان يخشى دائماً من خطر البيروقراطية، من أن ينقلب التنظيم إلى آلة جامدة تنفصل عن الجماهير. لذلك دافع عن تنظيم حي، مرن، ديمقراطي داخليا، يخضع لرقابة القواعد ولا يتحول إلى سلطة فوقها. أما لينين، فكان هاجسه العكس، أن تذوب الحركة في العفوية فتضيع بوصلتها. لذا وضع ثقله كله في صياغة تنظيم مركزي منضبط قادر على قيادة الزخم الشعبي وتحويله إلى انتصار سياسي.
في هذا السياق، يبرز درس آخر، الشعارات العامة وحدها لا تكفي. “حرية”، “كرامة”، “عدالة” كلمات عظيمة، لكنها إذا لم تتحول إلى برنامج ملموس تظل عرضة للتوظيف من كل الأطراف. هنا بالذات تبرز مساهمة تروتسكي في “البرنامج الانتقالي” (1938): تحويل الشعارات الفضفاضة إلى مطالب مرحلية قابلة للتحقق، مرتبطة بحياة الناس اليومية، لكنها في عمقها تفتح الطريق نحو تغيير جذري. الأمر نفسه طبّقه لينين عمليا في “شعارات أبريل 1917”: “الأرض للفلاحين”، “السلام للشعوب”، “كل السلطة للسوفييتات”. شعارات بسيطة، لكنها حددت بوضوح اتجاه الحركة وجسرت بين المطالب الفورية للجماهير والأفق الثوري الشامل.
الخلاصة التي يلتقي عندها لينين وتروتسكي، رغم اختلاف تصوراتهما للتنظيم، هي أن الثورة بلا تنظيم مصيرها إما التبديد أو الاختطاف. العفوية شرارة لا غنى عنها، لكنها تحتاج إلى عقل تنظيمي حي يحميها من الفوضى ومن التدجين. التنظيم بدوره لا يجب أن ينقلب إلى بيروقراطية متحجرة، بل أن يظل مرتبطا بالجماهير، خاضعا لرقابتها، مرنا في خططه، واضحا في هويته.
لقد دفعت شعوبنا ثمنا باهظا نتيجة الاكتفاء بالعفوية والانبهار بالشعارات الرنانة دون بناء أداة تنظيمية صلبة. وكثيرا ما جرى الالتفاف على الحراكات تحت عناوين براقة لم تكن إلا غطاء لمشاريع مضادة. ولذا، فإن الدرس الأهم الذي ينبغي ألا يُفلت من أيدينا اليوم هو أن الانتقال من العفوية إلى التنظيم لأنه ليس خيارا ثانويا، بل شرطا لبقاء أي حراك صادق على قيد الحياة، ولتحصينه من الانزلاق نحو ما يناقض شعاراته.
الثورات أو الحراكات الاجتماعية لا تُدار بالحماسة فقط. الحماسة وقودها، أما بوصلة اتجاهها فلا يصنعها سوى التنظيم الواعي والبرنامج الواضح.

السلام عليكم،
سؤال التنظيم بالمغرب يبقى عالقا،لم نشهد تنظيما سياسيا حامل لمشروع مجتمعي واضح،كل التجارب أثبتت هشاشة التنظيم رغم قوة الفعل.تحياتي من تطوان.