في السياسة، كما في الحياة العامة، لا تُستخدم الصور عبثًا، بل توظَّف بعناية لتعكس موازين القوى ورسائل غير معلنة. ومن أقسى الصور التي تداولها العالم مؤخرًا، تلك التي جمعت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع قادة أوروبا وأوكرانيا في مشهد غير مألوف: يجلس هو على مقعده، بينما يقف أو يجلس الآخرون أمامه في وضعية تُشبه جلسة الأستاذ مع تلامذته، أو الشيخ مع مريديه.
المشهد لم يكن مجرد صدفة بروتوكولية، بل كان مقصودًا وذا دلالة. لم تكن الإهانة في طريقة الاستقبال وحدها، بل في قبول القادة الأوروبيين هذا الوضع بصمت، وكأنهم سلموا بأن عليهم أن يستمعوا دون اعتراض أو حتى محاولة تعديل المشهد.
الأكثر إثارة أن هذه الصورة سبقتها مشاهد أخرى، أبرزها تجميع القادة أنفسهم في قاعة انتظار أمام مكتب ترامب، في وضعية أقرب لطلب الإذن بالدخول منه إلى لقاء قمة متكافئة. وكأن الرسالة واضحة؛ أوروبا ليست شريكا ندّا، بل طرفا تابعا ينتظر دوره.
لكن المفارقة تتجلى حين نقارن هذه الاستقبالات الباردة المهينة بالاستقبال الذي خصّ به ترامب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل أيام قليلة: سجاد أحمر، حفاوة بالغة، رسائل تقدير واحترام. إنها مفارقة تحمل أكثر من دلالة: فمن جهة، يُعيد ترامب ترتيب أولويات حلفائه وخصومه على حد سواء، ومن جهة أخرى يكشف لأوروبا حدود مكانتها في ميزان الإدارة الأمريكية.
السؤال الذي يفرض نفسه؛ ماذا يحمل ترامب لأوروبا في المرحلة القادمة؟
وهل يدرك القادة الأوروبيون حجم الرسائل التي تبعثها مثل هذه الصور، لا لشعوبهم فحسب بل للعالم كله؟
الجواب قد يكون في إدراك الأوروبيين أن زمن الشراكة “المتكافئة” مع واشنطن بدأ يتآكل، وأن عليهم التفكير في مسار جديد يوازن بين التبعية القديمة والاستقلالية التي يفرضها الواقع الجديد.
إنها صور تختصر معارك سياسية كبرى، وتُظهر كيف يمكن للغة الجسد والبروتوكول أن تقول ما لا تقوله الكلمات.
