
ليس كل معارض يشكّل خطرًا على النظام، لكن حين يأتي هذا المعارض من الداخل، ويكون على دراية تامة بكيفية اشتغال السلطة، ويملك بعضًا من أسرارها، يتحوّل إلى خطر مضاعف. ومحمد زيان واحد من هؤلاء. لم يكن يومًا معارضًا بالمعنى التقليدي، بل كان من أبرز المدافعين عن الدولة، وزيرًا سابقًا لحقوق الإنسان، ومحاميًا معروفًا، وفاعلًا في ملفات سياسية حساسة. كانت له علاقات داخل النظام، ويعرف خباياه. إنه بكل بساطة “ولد الدار”.
في لحظة معينة، بدأ زيان في إطلاق تصريحات تزعج النظام، وبلغ الأمر حدًّا خطيرًا حين بدأ يتحدث عن الفساد في الأجهزة الأمنية، وعن التعذيب في مراكز الاحتجاز، وعن التلاعب في القضاء، والإعلام الذي يُستخدم لتشويه صورة المعارضين. بل تجاوز ذلك إلى التلميح للحياة الخاصة للملك، وهو من الخطوط الحمراء في المغرب.
زيان لم يكن صوتًا من الهامش، بل هو من الداخل، عاش في قلب المنظومة، ويعرف كيف تُدار. وهذا ما يجعل صوته له وقع مختلف، ووزن ثقيل. النظام المغربي، المعتاد على مواجهة معارضين من خارج الدائرة، وجد نفسه أمام شخصية لا تخاف، ولا تسكت، ولم تعد لديها ما تخسره.
الأنظمة السلطوية، كالنظام المغربي، تشعر بتهديد كبير حين ينشق أحد أبناءها. لأنهم يعرفون كيف تُتخذ القرارات، ومن يتخذها. ويصعب على السلطة أن تواجههم بالتكذيب، خاصة حين يكون لديهم جمهور يتابعهم ويصدقهم. لذلك، حين بدأ زيان في إطلاق تصريحاته الجريئة، لم تتعامل معه الدولة بمنطق سياسي، بل لجأت إلى أسلوب آخر: المحاكمات، الضغوط، والتشهير، خصوصًا في حياته الخاصة، لتقويض مصداقيته أمام الرأي العام. الرسالة التي أرادت الدولة إيصالها للناس كانت واضحة: هذا ليس معارضًا، بل فاسد لا يستحق الاحترام.
خطورة زيان لا ترتبط فقط بتصريحاته، بل بالصورة التي تسعى الدولة لتسويقها منذ مطلع الألفية الجديدة. صورة دولة منفتحة، حداثية، تحترم الحقوق وتضمن حرية التعبير. لكن حين يتكلم وزير سابق، كان جزءًا من هذه الصورة، ويقول العكس، فإن هذه الصورة تبدأ في التصدع.
وهنا، تُطرح أسئلة أعمق: هل محمد زيان مجرد حالة استثنائية؟ أم أننا أمام بداية نمط جديد من المعارضين الذين خرجوا من رحم الدولة نفسها؟ هل يمكن أن نسمع مستقبلًا أصواتًا جديدة من داخل المؤسسات المخزنية تكسر الصمت وتتحدث عن ما كان يحدث خلف الأبواب المغلقة؟ وهل النظام المغربي مستعد فعليًا لتحمل تبعات انشقاق من عاشوا داخله وقرروا فضحه؟
قصة زيان بدأت تتحول بشكل واضح منذ سنة 2016، حيث أصبح خطابه أكثر نقدًا وجرأة. ومع تصاعد القمع ضد حراك الريف، برز زيان مدافعًا قويًا عن قادته، وعلى رأسهم ناصر الزفزافي، كما دافع عن الصحافي توفيق بوعشرين، مدير جريدة “أخبار اليوم”، وعن عفاف برناني، التي قالت إن الشرطة زوّرت محضرًا ضدها في ملف بوعشرين.
ومع هذا الدفاع القوي، بدأت الضغوط تشتد. ففي يوليوز 2020، قررت محكمة الاستئناف في الرباط منعه من ممارسة مهنة المحاماة لمدة عام، بحجة أن مرافعته كانت “خارج السياق”. ثم في مارس 2022، تم تمديد العقوبة إلى ثلاث سنوات.
في نونبر 2020، نشرت وسائل إعلام تشهيرية، على رأسها موقع “شوف تيفي”، مقطع فيديو يُظهر رجلًا عاريًا داخل أوطيل، وامرأة تساعده في تجفيف جسده بعد الاستحمام، مدّعية أنه محمد زيان وشرطية كان يدافع عنها منذ 2017. ورغم ضعف جودة الفيديو وعدم وضوح هوية الأشخاص، شنّت وسائل الإعلام حملة عنيفة ضد زيان.
زيان بدوره اتهم عبد اللطيف الحموشي، مدير الأمن الوطني والمخابرات الداخلية، بالوقوف وراء هذا الفيديو، لتبدأ مرحلة تصعيد جديدة. دخلت وزارة الداخلية على الخط وقدّمت شكاية، وتم استدعاؤه من طرف الشرطة القضائية بالدار البيضاء أكثر من 15 مرة، للتحقيق معه في مواضيع متعددة، بعضها لا علاقة له بالشكاية الأصلية، مثل تصريحاته حول التلقيح، ومواقفه من قضايا سياسية، ودفاعه عن الشرطية.
فجأة، أصبح زيان متهمًا بـ 11 تهمة ثقيلة، من بينها إهانة موظفين عموميين، والتشهير بنساء، والتحريض ضد إجراءات كوفيد، والخيانة الزوجية، والتحرش الجنسي، بل وحتى “إعطاء القدوة السيئة للأطفال”. وفي 23 فبراير 2022، أصدرت المحكمة حكمًا عليه بثلاث سنوات سجناً نافذًا. زيان استأنف الحكم، وبقي حرًا مؤقتًا، لكن عند حلول جلسة الاستئناف في 7 نونبر، لم يتوصل هو ولا محاميه باستدعاء، فغابا عن الجلسة، وأُصدر الحكم في غيابه.
بعد أيام فقط، وفي 21 نونبر 2022، تم اعتقاله، ليصبح من أبرز المعتقلين السياسيين في المغرب، ولتتحول قضيته إلى نموذج يعكس كيف تُدار ملفات المعارضين في المغرب، باستخدام تهم أخلاقية وجنائية بهدف تشويه الصورة وضرب المصداقية.
لكن القصة لم تنتهِ هنا. تم فتح ملف جديد ضد زيان، وهذه المرة بتهمة ثقيلة: “اختلاس أموال عمومية مخصصة للأحزاب السياسية”. القضية بدأت داخل الحزب المغربي الحر، حيث كان زيان أمينًا عامًا، ثم نشب صراع بينه وبين بعض الأعضاء، أبرزهم إسحاق شارية، الذي تقدّم بشكاية يتهم فيها زيان بتبذير الدعم العمومي الخاص بانتخابات 2015.
هذا الدعم العمومي يفترض أن يُستخدم في تنظيم أنشطة، تكوين مناضلين، وتنظيم حملات انتخابية. لكن التهمة تقول إن زيان استعمل هذه الأموال خارج الإطار القانوني. المثير في القضية هو أن المسطرة لم تمر عبر المجلس الأعلى للحسابات، الجهة الوحيدة المخولة بمراقبة أموال الأحزاب، بل جاءت من شكاية أمين عام جديد في خصومة مباشرة مع زيان، مما يثير تساؤلات عن استقلالية القضاء في هذا الملف.
زيان قام لاحقًا بإرجاع المبلغ محل الخلاف، ورغم ذلك استمرت المتابعة، وصدر حكم ابتدائي بخمس سنوات سجن، خُفّض لاحقًا إلى ثلاث سنوات. وهو ما يطرح تساؤلًا جوهريًا: هل الهدف هو فعلاً محاربة الفساد، أم الانتقام من معارض أزعج الدولة؟ وهل يُستخدم القضاء اليوم كأداة لتصفية الحسابات السياسية بدل تطبيق القانون بإنصاف؟
قضية زيان تعكس صورة أعمق عن المغرب اليوم، وتضعنا أمام مرآة نسأل فيها أنفسنا: هل ما زالت هناك مؤسسات مستقلة تحكم بالقانون، أم أن كل شيء بات رهين المزاج والولاء؟ وهل نريد فعلاً محاسبة الفاسدين، أم نختار من نحاسب، ونصمت عن البقية؟
اليوم، لا يتعلق الأمر بمحمد زيان فقط. أصوات كثيرة تعاني وتُستهدف، فقط لأنها عبّرت عن رأي مختلف. صحافيون، نشطاء، حقوقيون… كل من خرج عن الخط الرسمي، وُضع في مرمى القمع. التهم جاهزة، والملفات تُفتح بطريقة مثيرة، والهدف واحد: إسكات الأصوات وتخويف المجتمع.
الخطر لا يكمن فقط في القمع، بل في إعادة إنتاج سنوات الرصاص بشكل جديد، بأدوات معاصرة، لكن بعقلية قديمة. دولة كان يُفترض بها أن تحمي حرية التعبير وحق الاختلاف، أصبحت تستعمل القانون لتكميم الأفواه وبث الرعب.