في الثالث عشر من أكتوبر سنة 2025، خبا صوت من أبرز الأصوات اليسارية في المغرب. رحل المناضل والمفكر اليساري مصطفى البراهمة بعد صراع طويل مع المرض، تاركًا خلفه مسيرة من النضال الصلب والالتزام المبدئي قلّ نظيره. لم يكن البراهمة مجرد وجه سياسي عابر، بل كان أحد الأعمدة التي ارتكز عليها اليسار المغربي المعاصر، صوتا ظلّ يصدح بالحق حتى آخر أيامه، ورمزا لمثقف عضوي عاش أفكاره ولم يتخلّ عنها في أحلك الظروف.
وُلد مصطفى البراهمة سنة 1955 في دوار “الجوالة” التابع لجماعة أولاد حريز بإقليم برشيد. في تلك البيئة المحافظة، تشرّب قيم البساطة والكرامة والعدالة، وهي القيم التي ستشكل لاحقًا جوهر مشروعه الفكري والسياسي. ومع انتقاله إلى المدينة لمتابعة دراسته، بدأ احتكاكه الأول بالأفكار اليسارية وبالنقاشات الفكرية التي كانت تعصف بالمغرب خلال سبعينيات القرن الماضي، تلك المرحلة التي شهدت ولادة جيل من الشباب الحالم بالتحرر والعدالة والمساواة.
لم يكن انخراطه في النضال خيارا ظرفيا، بل مسارا وجوديا. انضم في شبابه إلى صفوف الحركة الماركسية – اللينينية المغربية، وخاصة إلى منظمة “إلى الأمام”، التي كانت تمثل آنذاك أحد أكثر التيارات اليسارية راديكالية في مقاربتها لقضايا الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. ومع تصاعد التوتر السياسي بين الدولة والمعارضة اليسارية، أصبح البراهمة هدفًا مباشرًا للأجهزة الأمنية.
في سنة 1985، أُلقي القبض على مصطفى البراهمة بتهم “المؤامرة ضد النظام” و”المساس بأمن الدولة”، في سياق ما عُرف بـ سنوات الرصاص. حُكم عليه بالسجن عشرين عامًا، عقد قرانه سنة 1987 في السجن، وقضى نحو 10 سنوات خلف القضبان. إلا أن السجن، بدل أن يطفئ جذوة النضال داخله، صقل روحه وصلّب إرادته. فقد تحوّل المعتقل بالنسبة إليه إلى مدرسة فكرية وإنسانية، حيث استمر في القراءة والنقاش والتكوين الذاتي، مؤمنا بأن الحرية لا يمكن أن تُسلب من روح اختارت الوعي طريقا لها.
خرج البراهمة من السجن سنة 1994، لكنه لم يخرج من النضال. فبدل أن يختار الراحة أو الابتعاد عن السياسة كما فعل كثيرون ممن أنهكتهم التجربة، عاد إلى الساحة أكثر صلابة وتصميمًا على الاستمرار في مشروعه اليساري التحرري.
بعد الإفراج عنه، ساهم إلى جانب عدد من رفاقه في تأسيس حزب النهج الديمقراطي العمالي سنة 1995، كامتداد علني للفكر الماركسي الثوري في المغرب. كان الحزب محاولة لإعادة بناء اليسار المغربي على أسس جديدة، بعد أن أُنهك بالانقسامات والتراجعات. ومنذ البدايات، كان البراهمة من أبرز منظّريه وقياداته، إذ تولّى مناصب تنظيمية عليا داخل الحزب، وانتُخب في يوليوز 2012 كاتبا وطنيا، المنصب الذي سيحتفظ به لولايتين متتاليتين حتى عام 2022.
عرفه رفاقه قائدا متواضعا، صلبا في المبدأ، متسامحا في الخلاف، متمسكًا بالحوار والنقاش كوسيلة للبناء المشترك. لم يكن من أولئك الساسة الذين يبحثون عن الأضواء، بل عن المعنى في الفعل السياسي. كان يرى أن النضال ليس مجرد شعارات، بل فعل منظم يتغذى من وعي فكري وتفاعل شعبي.
داخل النقابات والشارع والمجتمع المدني، ظلّ البراهمة صوتا جهوريا مدافعا عن قضايا العمال والفلاحين والطلبة والمعطلين. وكان دائم الحضور في كل مبادرة تضامنية أو احتجاجية، سواء ضد سياسات التفقير أو ضد انتهاكات حقوق الإنسان.
عرفه خصومه قبل رفاقه بأنه صادق في قوله، نزيه في مواقفه، لا يناور ولا يساوم، يضع المبادئ فوق المكاسب. كان ينتقد بجرأة سياسات الدولة، وفي الوقت نفسه لم يتردد في نقد الذات اليسارية حين تنحرف عن خطها النضالي، معتبرًا أن “اليسار الذي لا ينتقد نفسه لا يمكنه أن ينتقد العالم”
بعيدا عن السياسة، كان مصطفى البراهمة مثقفا واسع الاطلاع، قارئًا نهما للفكر الماركسي والفلسفة المعاصرة، ودارسا لتجارب التحرر الوطني في العالم. ومع ذلك، احتفظ ببساطته وإنسانيته. كان قريبًا من الناس، مستمعا جيدا، لا تفارقه الابتسامة رغم المعاناة. عاش حياة متقشفة، مكرّسًا جهده لما يؤمن به، دون أن يغريه منصب أو جاه.
خلال السنوات الأخيرة، أنهك المرض جسده، لكنه لم يُخمد صوته. ظلّ يكتب ويعبّر ويدافع عن قناعاته حتى الأيام الأخيرة من حياته. وفي 13 أكتوبر 2025، أسلم الروح بعد رحلة طويلة من الصمود، عن عمر ناهز السبعين عامًا. برحيله، طوى المغرب صفحة من صفحات اليسار الصلب الذي قاوم القمع والسجن والتهميش دون أن ينحني.
رحيل مصطفى البراهمة لا يعني نهاية فكره أو تأثيره. فقد ترك وراءه إرثا نضاليا وفكريا سيظل مصدر إلهام للأجيال المقبلة من اليساريين والمثقفين والمناضلين. لقد مثّل نموذجًا لـ المناضل المبدئي الذي يعيش قضيته بكل تفاصيلها، لا كوظيفة أو شعار، بل كموقف وجودي وأخلاقي. كان يردّد دائما أن “العدالة الاجتماعية ليست حلما طوباويا، بل ضرورة إنسانية”، وأن “من يخاف الحرية لا يستحقها”
بموت مصطفى البراهمة، خسر اليسار المغربي واحدا من آخر قلاعه الصلبة، وخسر الوطن رجلا نادرا جمع بين الفكر والموقف، بين الصرامة الفكرية والصدق الإنساني. سيظل اسمه محفورا في ذاكرة النضال المغربي كأحد الذين لم يتخلوا عن أحلامهم، ولم يساوموا على مبادئهم، وظلوا حتى آخر لحظة أوفياء لما آمنوا به.
