تحليل سياسي/
بدا المشهد في مجلس الأمن، يوم أمس، أقرب إلى مسرحٍ دبلوماسيّ مكتمل الأركان منه إلى جلسة تصويتٍ عادية. فالنقاشات التي سبقت اعتماد القرار المتعلق بمقاربة الحكم الذاتي وتجديد ولاية بعثة مينورسو في الصحراء الغربية، لم تكن حول مضمونٍ جديد أو مقاربة مبتكرة، بل حول ألفاظ وعبارات تُقاس فيها الكلمة كما تُقاس درجة الحرارة في مريضٍ مزمن، فكل زيادة أو نقصان قد تغيّر التشخيص، لكنها لا تغيّر حقيقة المرض.
من جديد، وجد العالم نفسه أمام نصٍّ يوازن بين نقيضين؛ نصّ يتحدث بلغتين متعارضتين في الجملة ذاتها. فبينما يشير القرار بوضوح إلى دعوة الأطراف إلى “الدخول في مفاوضات دون شروط مسبقة، على أساس الحكم الذاتي”، يعود ليؤكد في الشطر نفسه على ضرورة “التوصل إلى حل سياسي نهائي مقبول من الطرفين، يضمن لشعب الصحراء الغربية الحق في تقرير المصير”.
بهذا الأسلوب اللغوي الملتبس، يصبح النصّ الأممي أقرب إلى مرآةٍ سياسية مزدوجة الوجه، تعكس من جهة الموقف المغربي المدعوم من الولايات المتحدة وفرنسا، القائم على مقترح الحكم الذاتي كأفقٍ واقعي للتسوية، وتعكس من جهةٍ أخرى الموقف الجزائري–الروسي الذي يتمسك بإحياء مفهوم تقرير المصير، ولو في معناه التقليدي الذي تجاوزه السياق الجغرافي والسياسي منذ عقود.
ما جرى في قاعة المجلس ليس سوى إعادة إنتاجٍ لأسلوبٍ بات مألوفا في السياسة الأممية، حيث التوازن اللغوي بدل الحسم السياسي. فمجلس الأمن، وهو يدرك أن كل كلمة في النص قادرة على تفجير خلافٍ داخل أعضائه الدائمين، اختار كالعادة أن يكتب جملةً برأسين، ويترك لكل طرفٍ أن يقرأها بطريقته.
هذا الغموض المتعمّد ليس جديدا على ملف الصحراء، بل هو سمةٌ راسخة في كل قرارات المجلس منذ سنوات طويلة.
فالتوافق في الأمم المتحدة لا يُبنى على اقتناعٍ مشترك، بل على صياغةٍ رمادية لا تُغضب أحدا. ولهذا، لم يكن مفاجئًا أن يخرج القرار الأخير بنبرةٍ توفيقية، تُبقي الباب مفتوحًا أمام الجميع وتغلقه في وجه أي خطوةٍ حاسمة.
وقد سارعت وسائل الإعلام في كل من الرباط والجزائر إلى إعلان “نصرٍ دبلوماسي” من زاويتها الخاصة. فالمغرب يرى في تثبيت عبارة “على أساس الحكم الذاتي” تكريسًا لواقعية مبادرته التي وصفتها عواصم غربية بأنها “جدية وذات مصداقية”. في المقابل، تعتبر الجزائر وجبهة البوليساريو أن الإبقاء على مصطلح “حق تقرير المصير” دليلٌ على أن المجتمع الدولي لم يغير بوصلته، وأن القضية لا تزال مؤطرة داخل المرجعية الكلاسيكية لملف تصفية الاستعمار.
لكن خلف هذه الاحتفالات المتبادلة، يكمن وهْم التوازن. فمجلس الأمن لا يمنح الشرعية لأحد، بقدر ما يؤجّل الخلاف إلى موعدٍ لاحق. النص، في جوهره، لا يحسم اتجاه المسار السياسي، بل يكرّس إدارة الأزمة بدل حلها. ولعل هذا هو الدرس الأكثر وضوحًا في القرار الأخير، أي أن اللغة يمكن أن تكون وسيلة لتجميد النزاع، لا لتسويته.
ويرتبط مأزق الصحراء اليوم بما هو أوسع من نصٍّ أممي أو بعثةٍ ميدانية. فالتوازنات بين القوى الكبرى تغيّرت، والمشهد الإقليمي بات أكثر تعقيدا.
الولايات المتحدة ترى في المغرب حليفًا استراتيجيا في استقرار شمال إفريقيا ومكافحة الإرهاب، بينما تنظر روسيا إلى الجزائر بوصفها شريكا طاقيا وعسكريًا لا يمكن التفريط فيه. وبين هذين القطبين، تقف فرنسا في وضعٍ دفاعي متردد، بعد أن فقدت كثيرا من نفوذها في الساحل الإفريقي، وتحاول جاهدة الحفاظ على خيطٍ من التوازن مع الرباط والجزائر معا.
أما داخل المنطقة، فالمصالحة المغربية–الجزائرية التي حاول المبعوث الأممي ستيف ويتكوف التمهيد لها، لا تزال رهينة مناخ من الشك وانعدام الثقة، في ظل استمرار القطيعة الدبلوماسية وغياب أي قنوات اتصالٍ فعّالة.
من السهل أن يكتب مجلس الأمن في قراره عبارةً عن “مفاوضات دون شروط مسبقة”، لكن الأصعب أن يخلق بيئة سياسية وأمنية تسمح فعلاً بتلك المفاوضات. فحتى اليوم، لا توجد مؤشرات على إمكانية استئناف مفاوضات مانهاست في الأجل القريب، ولا على رغبة الأطراف في تجاوز لغة البيانات إلى فعلٍ تفاوضي حقيقي.
يبدو أن المسار الأممي أصبح يعيش ما يمكن تسميته بـ”مرحلة الجمود المُمأسس”، حيث تتحوّل القرارات إلى طقوسٍ سنوية تُتلى ثم تُنسى، وتتحول البعثة الأممية إلى شاهدٍ صامتٍ على عجز المجلس عن ممارسة سلطته السياسية.
ما حدث في جلسة التصويت ليس انتصارًا لأحد، بل هزيمة للوضوح. فحين تختار الدبلوماسية أن تتحدث بلغتين في جملة واحدة، فإنها في الحقيقة تقول كل شيء ولا تقول شيئا.القرار الجديد حول الصحراء لا يقرّب الحل، لكنه يذكّر بأن مجلس الأمن لم يعد ساحة لصياغة المواقف، بل مساحة لتدوير الخلافات.
وبين “الحكم الذاتي” الذي يراه المغرب طريقا واقعيا، و”تقرير المصير” الذي تعتبره الجزائر حقا مقدسًا، ستبقى الصحراء عالقةً في منطقة رمادية، حيث تكتب السياسة بلغة لا تقول ما تعني، وتعني ما لا تقول.ففي عالم يُقاس فيه النفوذ بميزان القوة لا بوضوح النصوص، يبدو أن لغة مجلس الأمن لم تعد أداة للفهم، بل وسيلة لتأجيل الحقيقة.
وحين تصبح اللغة نفسها مزدوجة الرأس، تنتهي القراءات بأكثر من تأويل، وتضيع الحقيقة في منتصف الجملة.
