عماد العتابي
لم تكن مشاهد الغضب التي اجتاحت عددا من المدن المغربية في الأيام الأخيرة وعلى رأسها ما وقع الليلة الماضية من أحداث مؤسفة في عدة مدن مغربية، حيث واجه فيها الشبابُ جبروت أجهزة القمع بالصدور العارية، سوى نتيجة حتمية لمسار طويل اختار فيه النظام أن يحاصر السياسة بدل أن يُطورها، ويُدجّن الأحزاب بدل أن يُمكنها، وأن يفرغ النقابات والجمعيات من دورها بدل أن يستثمر في استقلاليتها.
لأكثر من أربعة عقود، اعتمدت الدولة نفس الوصفة عبر التحكم في الفضاء الحزبي بفرض قوانين صارمة وانتخابات مضبوطة تخاط على مقاس من يتحكم في اللعبة، وإقصاء كل صوت يحاول أن يشق مسارا مختلفا. بهذا المسار، تحوّلت الأحزاب إلى هياكل إدارية أكثر منها أدوات تمثيل، وصار البرلمان فضاء لإعادة إنتاج نفس التوازنات، بينما تآكلت الثقة الشعبية يوما بعد يوم.
إن ما نشهده اليوم هو النتيجة المباشرة لهذا “التفريغ السياسي”. فالشباب الذين ملؤوا الشوارع لم يجدوا حزبا (الأحزاب المشاركة في اللعبة السياسية) يتبنّى مطالبهم، ولا نقابة تدافع عن حقوقهم، ولا مؤسسة تمثلهم بصدق. لهذا خرجوا إلى الشارع، جيل “تيك توك” و”إنستغرام”، لا قيادة له ولا وساطة سياسية تضبطه. وحين يغيب الوسيط المؤسسي، ينفجر الواقع في الساحات.
هنا تحديدا تقع المسؤولية الثقيلة على عاتق الدولة فالخيار الأمني الذي لجأت إليه ليلة أمس، بالتدخلات العنيفة والخطيرة في حق متظاهرين مسالمين، لم يُنتج إلا صورا دامية تملأ الشبكات الاجتماعية وتُغذّي الغضب. الدولة تتحمل المسؤولية كاملة عن كل دمعة سالت، وكل إصابة وقعت، لأنها هي من أغلقت أبواب الحوار، وأفرغت المؤسسات، ثم واجهت المواطنين بالعنف حين لم يجدوا سوى الشارع فضاء للتعبير.
ليس من الموضوعية أن يُلقى اللوم على “مندسين” أو “أيادٍ خارجية”. الحقيقة أبسط وأكثر مرارة، إن ما وقع أمس هو حصيلة سياسات القمع وتدجين السياسة عبر عقود، وهو نتيجة مباشرة لخيارات جعلت من القمع بديلا للحوار ومن الهراوة جوابا على الأسئلة الاجتماعية العميقة.
إن النظام المغربي، وهو يحاول المحافظة على صورته الدولية كبلد مستقر، يغفل أن الاستقرار لا يُبنى على المهرجانات والملاعب والمشاريع الضخمة وحدها، بل على مدرسة جيدة، مستشفى يُنقذ الأرواح، شغل يحفظ الكرامة، ومؤسسات سياسية ذات مصداقية. تجاهل هذه المعادلة يعني ببساطة “اللعب بالنار”.
كل يوم إضافي من العناد، كل مواجهة أمنية جديدة، كل خطاب رسمي فارغ وبارد ويوجه الشكر للاجهزة “الأمنية” التي تقمع الناس، يزيد من المسافة بين الدولة والشعب. الشباب اليوم لا يملكون شيئا ليخسروه، وهذا أخطر ما في الأمر. من يواجه جيلا محروما من الأمل عليه أن يتذكّر أن النار حين تشتعل لا تعترف لا بهراوة ولا بخطاب.
إن الطريق واضح، وهذا الطريق يمر عبر فتح حوار حقيقي وشفاف مع الشباب وتنفيذ مطالبهم وهي مطالب كل الشعب المغربي المُجوع والمُفقر، إعادة الاعتبار للأحزاب والمؤسسات، محاربة الفساد بجدّية، وإعادة ترتيب الأولويات لصالح المواطن. أما الاستمرار في تدجين السياسة وإدارة الأزمات بالقبضة الأمنية، فمعناه الاستمرار في إشعال النار تحت بلدٍ لا يحتمل المزيد من الحرائق.
النظام المغربي يلعب بالنار، وما حدث ليلة أمس ليس إلا جرس إنذار جديد لمن أراد أن يتجاهل ما هو ظاهر للعيان.
