كشفت تقارير صناعية دولية عن تحول لافت في خريطة صناعة السيارات العالمية، بعدما وضع تقرير “Labour Cost per Vehicle Report 2024” المملكة المغربية في صدارة الدول الأرخص تكلفة من حيث العمالة الصناعية.
ووفقًا للتقرير، بلغت تكلفة اليد العاملة لإنتاج سيارة واحدة في المغرب 90 يورو فقط، مقابل 820 يورو في إسبانيا، و1770 يورو في إيطاليا، و2840 يورو في ألمانيا.هذه الأرقام جعلت من المغرب وجهة مفضّلة لشركات السيارات الأوروبية الباحثة عن خفض تكاليف الإنتاج وتعزيز هوامش الربح.
إذا افترضنا وحدة التكنولوجيا والمهارة والوقت اللازم لتصنيع السيارة في جميع هذه الدول، فإن الفارق في التكلفة لا يعكس اختلافًا في الكفاءة، بل في أجر العامل نفسه. فالعامل المغربي يتقاضى نحو 11% من أجر العامل الإسباني، و5% من أجر العامل الإيطالي، و3.2% من أجر العامل الألماني.
وبمعنى آخر، قوة عمل ألمانية واحدة تعادل 32 قوة عمل مغربية من حيث القيمة النقدية، لا من حيث القدرة الإنتاجية.
تتسابق الشركات العالمية على الاستثمار في المغرب ليس فقط لجاذبية موقعه الجغرافي أو استقراره السياسي، بل أساسًا لأن كلفة اليد العاملة فيه تُعد من الأرخص عالميًا. هذا الفارق الكبير في الأجور يمنح المستثمرين هامش ربح واسعا، لكنه في الوقت نفسه يعكس ضعف القوة التفاوضية للعامل المغربي، الذي يجد نفسه في سوق عمل منخفض الأجور ومحدود الحقوق النقابية.
وبينما تُبقي الشركات الأوروبية على مراكز البحث والتطوير داخل بلدانها الأم ذات الأجور المرتفعة، تنقل إلى المغرب مراحل التجميع والإنتاج البسيط التي تتطلب عمالة مكثفة ورخيصة.
بهذه الطريقة، يتحقق الربح للشركات، لكن دون أن يتحقق نقل حقيقي للتكنولوجيا أو للمعرفة الصناعية.
ويرى خبراء الاقتصاد أن هذا الواقع يعكس اختلالا عميقًا في ميزان القوى بين العمال وأرباب العمل.ففي المغرب، تُعد القوانين المنظمة لسوق العمل أكثر مرونة لصالح المستثمرين، بينما يواجه العمال ضعفًا في التنظيم النقابي وغياب أدوات فعالة للمطالبة بتحسين الأجور.
أما في أوروبا الغربية، فقد سمحت عقود من النضال العمالي ببناء منظومات حماية اجتماعية قوية تضمن للعامل أجورًا مرتفعة وتأمينات عادلة، ما يرفع من قيمة عمله ويجعل تكلفة إنتاج السيارة أعلى، لكن أكثر عدلاً واستدامة.
ورغم أن انخفاض كلفة العمالة يمنح المغرب ميزة تنافسية في المدى القصير، إلا أن هذه الميزة قد تتحول إلى فخ تنموي طويل الأمد إذا لم تقترن بتطوير الكفاءات المحلية ورفع القيمة المضافة الصناعية.فما لم يتحقق توازن بين جاذبية الاستثمار وحماية العامل، سيظل المغرب في موقع المنفذ الإنتاجي منخفض الكلفة ضمن السلسلة العالمية لصناعة السيارات.
قد يبدو أن المغرب نجح في فرض نفسه لاعبا مهما في صناعة السيارات، لكن التحدي الحقيقي يكمن في تحويل التفوق في الكلفة إلى تفوق في القيمة.فلا يمكن أن تقوم تنمية صناعية مستدامة على قاعدة الأجور المنخفضة وحدها، بل على عدالة التوزيع، وتوازن المصالح بين رأس المال والعمل، وضمان أن تكون تنافسية الصناعة المغربية رافعة للإنسان لا عبئا عليه
