لم يكن تصريح أحمد زيدان، مستشار الإعلامي للجولاني، بدعوة جماعة الإخوان المسلمين إلى حل نفسها حدثا عابرا. فالرجل لم يتحدث فقط عن نهاية تنظيم تقليدي أنهكته الخسارات، بل لمح إلى مسار يراد من خلاله حشر الحالة الإسلامية السنية في سوريا ضمن قفص واحد، هيئة تحرير الشام الإرهابية. بعبارة أوضح، المطلوب إقصاء أي تعددية فكرية أو سياسية، ومنح “الهيئة” السلفية الارهابية تفويضا حصريا بالتمثيل.
لكن المثير أن هذا الطرح جاء متزامنا مع انقلاب في خطاب الإخوان المسلمين بالمنطقة. فقد خرجت بيانات غاضبة ضد اجتماع باريس الذي جمع وزير الخارجية السوري بنظيره الإسرائيلي، ووصفت جماعة العدل والإحسان في المغرب الخطوة بأنها “انحراف خطير”. غير أن القراءة المتأنية تكشف أن اعتراض الإخوان لم يكن على الاجتماع لذاته، فهو ليس الأول، إذ سبقته لقاءات رفيعة المستوى في باكو ودبي ومناطق أخرى، ولم يحرّكوا ساكنا حينها. الجديد هذه المرة أن الإخوان، ومعهم رعاتهم الإقليميون، شعروا بأنهم أُخرجوا من المعادلة السورية، وأن هناك ترتيبات جديدة تتجاوزهم تماما.
هذا الإقصاء هو ما أثار حفيظة الجماعة، بل ووصل أثره إلى أنقرة؛ حيث تشير المعطيات إلى أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي لا يزال يعتبر نفسه مرجعا وحاميا للحركة الإخوانية، انزعج من تهميش حلفائه التاريخيين في الملف السوري. من هنا جاءت التعليمات غير المعلنة لشن هجوم سياسي وإعلامي على سلطة الأمر الواقع في سوريا، في محاولة لإعادة فرض الإخوان كرقم صعب في المعادلة.
وإذا نظرنا إلى مسارات الجماعة في المنطقة، يتضح أن هذه ليست المرة الأولى التي تُظهر فيها ازدواجية في المواقف. ففي مصر، قبل الانقلاب العسكري عام 2013، أبدى الإخوان استعدادا للتفاهم مع واشنطن وإسرائيل عبر قنوات غير مباشرة، لكنهم في العلن تمسكوا بخطاب الممانعة. وفي تونس، تحولت حركة النهضة من شعارات الثورة إلى شريك في منظومة الحكم، مقدمة تنازلات استراتيجية أضعفت رصيدها الشعبي. هذه الأمثلة تكشف أن خطاب الإخوان عادة ما يتأرجح بين المزايدة الشعبوية والبراغماتية السياسية، وفق موقعهم من السلطة وموازين القوى.
بين دعوة زيدان للحل، وتصعيد الإخوان ضد التطبيع، واستحضار سجلهم في مصر وتونس وليبيا وغيرها، تتضح معالم مشهد جديد.. هناك من يسعى إلى تصفية التعددية الإسلامية السنية لصالح نموذج واحد مسيطر، يقابله تنظيم يبحث عن إعادة التموضع عبر تبني خطاب أكثر حدة تجاه إسرائيل. لكن خلف هذه الشعارات يكمن صراع نفوذ إقليمي حقيقي، تتداخل فيه حسابات أنقرة وتوازنات القوى على الأرض السورية.
الخلاصة أن الإخوان لا يواجهون اليوم أزمة خطاب فقط، بل أزمة وجود. فمحاولتهم إحياء شعارات الممانعة ليست سوى استثمار متأخر في رصيد أخلاقي وسياسي استنزفوه عبر عقود من المراوغة. والمشهد الإقليمي، كما يبدو، لم يعد يحتمل أوراقا محروقة أو قوى تعيش على التناقضات. فمن لا يمتلك مشروعا واضحا وواقعية سياسية متوازنة، سيجد نفسه خارج اللعبة، مهما علا صوته بالشعارات.
