شهدت الدوحة يوم أمس استهدافا لقادة حماس، وهو الحدث الذي تجاوز البعد العسكري المباشر ليصبح مؤشرًا على تحولات أوسع في الشرق الأوسط. فالدوحة، في جوهرها، دولة وظيفية بلا قرار مستقل ولا سيادة حقيقية، وتحتضن قاعدة العديد الأمريكية، مما يجعل أي عملية تجري على أراضيها مرتبطة بالمنظومة الأمريكية–الإسرائيلية. من الناحية العملياتية، كان بالإمكان تنفيذ العملية بهدوء ودون ضجيج إعلامي، لكن اختيار إسرائيل للطريقة العلنية بالصواريخ والطائرات يعكس بعدًا استراتيجيًا ورمزيًا، يوجه رسالة واضحة إلى كل المنطقة: قدرة إسرائيل على التحرك بلا رادع، حتى ضد قيادات فلسطينية في بيئة يُفترض أنها آمنة.
وجود حماس في قطر لا يعني استقلالية دولة قطر أو لعبها دورا مقاوما ما. لأن فتح مكتب الحركة جاء ضمن إطار دولي، وبناء على طلبات أمريكية وإسرائيلية، لإخراج الحركة من سوريا وتحييد أي نشاط مقاوم هناك. قطر، بكونها قاعدة عسكرية أمريكية وظيفية، تلعب دورا محددا ضمن النظام الإقليمي الأمريكي–الإسرائيلي، يشمل دعم إسرائيل لوجستيا وماليا، وإدارة ملفات سياسية عبر جماعات الإخوان وغيرها وتخريب وعي الشعوب عبد أداتها الإعلامية “الجزيرة”. لذلك، الضربة التي استهدفت وفد حماس لا يمكن تفسيرها على أنها اعتداء على دولة مستقلة؛ فهي تعكس موقع قطر كعنصر ضمن منظومة أكبر، وليس كدولة ذات قرار مستقل.
اختيار إسرائيل تنفيذ العملية بطريقة علنية يشير إلى بعد استراتيجي مرتبط بالوعي العربي. العملية لم تكن مجرد محاولة اغتيال محدد، بل رسالة لكل الأطراف العربية: أي قيادات فلسطينية، حتى في مواقع يُفترض أنها آمنة كونها “صديقة” لأمريكا وإسرائيل، معرضة للاستهداف، ما يشكل صدمة سياسية ومعنوية. وهذه الطريقة تعكس تحولًا في إدارة النزاعات الإقليمية، حيث أصبح التهديد الرمزي وجعل الشعور بعدم الأمان جزءا من الاستراتيجية السياسية.
لطالما أكد سيد الشهداء السيد حسن نصر الله، على أن “إذا سقطت سوريا ضاعت فلسطين”. دمشق التي كانت العمود الفقري لمحور المقاومة والحائط الأول أمام التوسع الإسرائيلي. مع سقوطها واستشهاد سماحة السيّد، تضاءلت قدرة الردع السياسي والعسكري والمعنوي، ما منح إسرائيل هامش تحرك أكبر، وأعاد تشكيل الحسابات الاستراتيجية لكل اللاعبين الإقليميين.
هذه العملية في الدوحة تأتي لتتسق مع مشروع “إسرائيل الكبرى”، الذي لم يعد يركز فقط على التوسع الجغرافي من النيل إلى الفرات، بل يشمل الهيمنة الرمزية والسيطرة على وعي الشعوب. عن طريق العمليات العلنية، واستعراض القوة، والرسائل الإعلامية المتعمدة، التي تهدف إلى إعادة تشكيل الإدراك الجمعي العربي، لتصبح الهيمنة الإسرائيلية مقبولة قبل أن تتحقق على الأرض. لأن السيطرة على العقول أصبحت أولوية استراتيجية توازي السيطرة على الجغرافيا.
في هذا السياق، تبرز مصر كحائط صد استراتيجي، كونها تمثل آخر توازن يمكن أن يعيق مشروع إسرائيل الكبرى. أي تراجع مصري أو ضعف في الدور القومي قد يتيح لإسرائيل تنفيذ مشاريعها دون مقاومة فعلية، وتحويل المنطقة إلى مسرح مفتوح للهيمنة. فالقاهرة ليست مجرد دولة؛ هي عنصر أساسي في توازن القوى الإقليمي وقدرتها على إدارة الملفات الفلسطينية تؤثر مباشرة على الاستراتيجيات الإسرائيلية في المنطقة.
في المحصلة، لم يكن استهداف قطر مجرد ضربة عسكرية عابرة، ولا مجرد خطأ في الحسابات. فالمكان الذي تُحتضن فيه أكبر قاعدة أمريكية في المنطقة كان، من الناحية العملياتية، آخر ما يتوقع الناس أن يُقصف. كان يمكن تنفيذ عملية اغتيال بأساليب استخباراتية أكثر هدوءا وأقل ضجيجا، لكن اختيار الصواريخ والطائرات لم يكن اعتباطيا. لقد أريد لهذه النار أن تُسمع، وأن تُرى، وأن تترك صداها في الوعي العربي.
بهذا المعنى، يصبح استهداف قطر جزءا من تمهيد ناري لمعادلة أكبر وفرض صورة “إسرائيل الكبرى” لا كحدود جغرافية بل كهيمنة رمزية. لأن إسرائيل اليوم لا تختبر قدرتها على القصف، بل تختبر مدى استعداد الوعي العربي لتقبل الرسالة. فالمعركة لم تعد فقط على الأرض، بل على الإدراك الجمعي، على فكرة من يملك الكلمة ومن يحدد الرواية.
