ولد أحمد الزفزافي سنة 1943 بقرية “ازفزافن” قرب أجدير بالحسيمة، ومنها استمدت عائلته لقبها العائلي. نشأ في وسط ريفي متشبع بالقيم التقليدية، وسط عائلة لها ارتباط وثيق بتاريخ المقاومة بالريف. فجده من الأم كان وزير الداخلية في جمهورية الريف، ووالده كان محرر مراسلات مع محمد عبد الكريم الخطابي. كما أن شقيقه الأكبر، محمد الزفزافي، عاش تجربة سياسية وثقافية غنية في القاهرة قبل أن يعود إلى المغرب، ويُدرّس بمدينة تطوان، لكنه رحل في حادثة سير غامضة سنة 1972 رفقة زوجته وابنه.
كبر أحمد الزفزافي في فترة دقيقة من تاريخ المغرب المستقل. وهو لم يكن شاهداً فحسب على أحداث 1958-1959 في الريف، بل عاش تفاصيلها القاسية. حينها كان في السادسة عشرة من عمره. يتذكر أن سكان القرى كانوا يرفعون الرايات البيضاء فوق بيوتهم طلباً للأمان وقد كانوا من بين الأسر التي فعلت ذلك، لكن الجيش اقتحم البيوت ونهب الممتلكات وارتكب فظاعات من قتل واغتصاب وحرق للبساتين. يروي أحمد في حوار مطول مع جريدة “أخبار اليوم” أن مشاهد تلك الأحداث تركت ندوباً عميقة في ذاكرته، وأنه ما زال غير قادر على فهم دوافع تلك الحرب الضارية ضد الريفيين.
انتقل إلى تطوان حيث تابع دراسته في معهد القاضي عياض، وهناك شارك في الحركات الطلابية. سنة 1963 اعتقل في مظاهرة وتعرض لتعنيف شديد على يد الشرطة، تجربة ستظل محفورة في ذهنه. كما شارك في احتجاجات فترة “حرب الرمال” وحوّل رفقة زملائه شعارات التلاميذ من مساندة الحرب إلى انتقاد النظام. شهاداته الدراسية الأولى حصل عليها في الشاون، لكنه يعتبر أن شقيقه الأكبر محمد هو الذي أثّر فعلياً في تكوينه، أكثر من والده الصارم الذي كان يُلقّب في القبيلة بـ”الفقيه سي حمو”.
ارتبط مسار أحمد الزفزافي بشكل وثيق بتاريخ الريف والمغرب المعاصر. من أحداث 1959، إلى اعتقاله في ستينيات القرن الماضي، إلى متابعته للتحولات السياسية مع تولي الحسن الثاني الحكم وفتور علاقة الريفيين بالمؤسسة الملكية بعد القمع الدموي. يحكي عن زيارات الملوك المتعاقبين للحسيمة، وعن الاستقبال المهيب الذي خص به السكان الملك محمد السادس سنة 1999، قبل أن تتبدد تلك الآمال في التغيير.
عام 1973 تزوج أحمد الزفزافي، وأنجب أربعة أبناء. في بيته المتواضع بالحسيمة، شكّل أسرةً متماسكة، تقوم على التربية الصارمة المتوازنة بالحنان، وعلى تقديس قيمة الكرامة. وحين اندلعت شرارة الحراك في الريف سنة 2016، لم يتخيل أن بيته سيصبح فجأة نقطة التقاء الصحافة والحقوقيين والباحثين عن فهم ما يجري.
مع اعتقال ابنه ناصر في مايو 2017، وبدء محاكمات طويلة استأثرت باهتمام الرأي العام الوطني والدولي، وجد أحمد الزفزافي نفسه في قلب العاصفة. لكنه اختار أن يواجهها بصوت هادئ، بعيد عن الانفعال.
كان حضوره في الوقفات الاحتجاجية لافتاً؛ يحمل صور ابنه، يتحدث إلى الصحافة بكلمات صافية تخاطب الضمير أكثر مما تخاطب السياسة. قال مرةً: “ابني ليس مجرماً، ابني طالب بكرامة الجميع”، جملة أصبحت لازمة تردّدها الألسن في الشارع.
لم يتوقف عند حدود الحسيمة أو الرباط، بل حمل قضيته إلى الخارج. في إحدى محطاته البارزة، سافر إلى بروكسيل، حيث قدّم مداخلة مؤثرة أمام البرلمان الأوروبي، طالب فيها بفتح تحقيق مستقل في أوضاع معتقلي الحراك. لم يكن فقط خطيبا مفوها، لكنه كسب التعاطف بصدق نبرته وصورة الأب الذي لا يطلب سوى الإنصاف.
رغم ظهوره المتكرر، كان أحمد الزفزافي يحرص على التذكير بأنه لا يمارس السياسة بالمعنى الحزبي أو التنظيمي. لكنه كان، في جوهر الأمر، يمارس أرقى معاني السياسة وهي الانتصار للإنسان، ومقاومة الظلم بالكلمة الهادئة. لقد مثّل صوت الضمير الأخلاقي الذي يوازن بين صخب الشعارات وصمت السجون.
حين رحل أحمد الزفزافي في يوم 3 سبتمبر 2025، خيّم شعور باليُتم على جزء واسع من الريف. لم يُعرف كزعيم جماهيري، لكن صورته ظلت لصيقة بوجدان الناس كأب يحمل وجع ابنه، وفي الوقت نفسه يحمل وجع منطقة بأكملها. كان بمثابة جسر بين أجيال المقاومة القديمة التي عاصرت الخطابي، وبين أجيال جديدة خرجت إلى الشارع طلباً للكرامة.
سيبقى اسمه محفورا في ذاكرة الريف والمغرب معا، لا باعتباره “أب ناصر” فقط، بل أبا جماعيا لكل الذين وجدوا في الحراك صرخة إنسانية من أجل العدالة الاجتماعية. كان أحمد الزفزافي شاهدا بصوته الهادئ على أن التاريخ لا يُكتب بالشعارات وحدها، لكن أيضا بدموع الآباء وصبر الأمهات.
